ممكن نص جنيه!


بقلم: محمود محمدي

«جيش عرمرم» من كلا الجنسين، ومن مختلف الأعمار، تجدهم في الأزقة الصغيرة، وفي مواقف السيارات المحيطة بالميادين العامة، ينتشرون قرب الإشارات الضوئية، وعلى التقاطعات بشكل خاص.
 
من يجول في شوارع القاهرة، لن يستطيع أن يغض النظر عن هؤلاء «الشحاتين» الذين تمتلئ بهم الشوارع نهارًا وليلًا، وكذلك لن يتمكن من الهرب من إلحاحهم في طلب الصدقة والإحسان، إذ يركضون خلف المارة وراكبي السيارات، يستجدون المال بطرق مختلفة؛ من مدّ اليد، أو مسح زجاج السيارات، أو بيع المناديل الورقية.
 
مساء أمس، كنت بالقرب من محطة مترو «البحوث» في حي الدقي، بمحافظة الجيزة، ظهرت أمامي فجأة امرأة في عقدها الثالث تقريبًا، لا يبدو على وجهها أي ملامح فقر أو غُلب، مثل الصورة الذهنية الراسخة لدينا عن «الشحاتين»؛ حيث إن جسمها لم يكن هزيلًا، ولم تكن ملابسها رثة مثلًا، بل كانت ناعمة الوجه، بضة الجسم، وملابسها كانت أنيقة إلى حد بعيد.
 
ومثل ملابسها، كانت طريقة طلبها للمال، فلم تقل: «ادفع ما شئت لتساعدني»، أو «حاجة لله»، بل قالت وبكل ثقة: «ممكن نص جنيه؟»، بسرعة وبتلقائية وبدون تردد قلت: «الله يسهلك»، وبعد أمتار قليلة منها توقفت، وباغتني سؤال واحد.. لماذا طلبت «نص جنيه» بالتحديد، ماذا يمكن أن تشتريه بهذا المبلغ البخس؟
 
لم أرهق نفسي في التفكير، وقررت أن أعود وأسألها، وقبل السؤال عن ما فائدة النصف جنيه، وعدتها أن أعطيها ما طلبت، وهي لم تكن بخيلة في إجابتها، فقالت: «أنا أطلب نصف جنيه، ليس لأن هذه القروش القليلة هي هدفي، ولكن لأن أي شخص يستطيع أن يدفع لي هذا المبلغ، وخلال ساعات قليلة سيصبح معي مبلغًا لا بأس به، وكما قلت النصف جنيه لا فائدة منه، وبالتالي لن تجد من يحمل تلك العملة إلا قليلًا، وأي شخص سيقرر أن يساعدني لن يجد في محفظته أقل من جنيه.. هل فهمت شيئًا؟».
 
انهار فكري أمام فلسفة تلك المرأة في «الشحاتة»، وبدأ عقلي يُحدثني، لماذا لم يأتِ في خاطري أن أنتمي لهذه الفئة من «الصنايعية»، عمل سهل ومربح ولا يرهقني ولن يؤذي أحدًا، فقط سأقف أمام أي مسجد أو محطة مترو أو أي مكان مكتظ بالبشر، وسأطلب من كل شخص يمر أمامي «ربع جنيه»، سأحطم أسطورة تلك المرأة، وأنتصر عليها؛ لأن لدي ميزة تنافسية، فأنا أطلب رقمًا أصغر من الذي تطلبه تلك الثلاثينية، لكن أنا حظي «ديمًا مدُوحَسْ»، وإذا طلبت ربع جنيه، سيعطيني كل من أسأله ربع جنيه فقط لا غير، إذا أعارني أي اهتمام من الأساس.
 
في الحقيقة لا يهمني أمر تلك المرأة، ولكن ما يهمني هم «الأطفال»، الذين لا يعرفون معنى كلمة أسرة، ولم يتلقوا أي نوع من التربية، ولأنهم لم يجدوا من يُعلمهم الصواب من الخطأ؛ يلجأون إلى احتكار الساحات والشوارع، وأبواب المساجد والمدارس والمستشفيات والمصالح العمومية، وإشارات المرور والمواصلات العامة.
 
إلى كل من يحبون المقاهي القديمة أكثر من الكافيهات، ويفضلون رائحة القهوة على عطر الورد، ويحبون النصف الأخير من الليل حينما يستسلم الحمقى للنوم، ويفضّلون استنشاق النيكوتين بدلًا من الهواء، ألا تجدون جميعًا أنه لأمر محزن أن تتحول حياة هؤلاء الأطفال التي يجب أن تكون مشرقة، إلى حياة باهتة خالية ومجردة من كل المعاني بهذا الشكل.
 
أتذكر جيدًا أن الرئيس عبدالفتاح السيسي، أطلق في يناير 2016، مبادرة «حماية الأطفال»، وهي تتمثل في «استراتيجية» بعيدة المدى، تستهدف «قاطنى الشوارع»، و«العاملين في الشارع»، و«أسر الشوارع»، ثلاث فئات لأطفال يعيشون في خطر، وعددهم 2 مليون طفل تقريبًا، وذلك بالتنسيق مع وزارتي «الداخلية والتضامن الاجتماعي»، إضافة إلى المجلس القومى للأمومة والطفولة، وأكثر من ١٩ جمعية من جمعيات المجتمع المدني العاملة في حماية الأطفال.. لا أعرف أين هذا المشروع الآن، ولما لم يهتم أحد بشمول ورعاية تلك المبادرة، ولكن أعتقد أن عدد أطفال الشوارع زاد على 2 مليون!