رحمة


بقلم ـــ إسلام حامد

وجدتها أمامى فجأة، وانا فى مقر عملى، طفلة صغيرة القوام، لكنها كبيرة العقل والادراك، لا تمتلك ذراعين حقيقة، لكنها تمتلك قدما، تكتب وتسطر، لتبرهن على خوض التحدى مع هذا العالم، تحدى الإعاقة، الانهزام، القبول والرضا ببساطة معيشتها التى تنتمى لأب مزارع كادح وأم موظفة مؤقتة فى إحدى الجهات الحكومية .

وكعادة من يكتب مقالا ، يختار أن تبرز صورته أولا فى صدر مقاله، منتشيا بما كتب، لكنى أعتقد أن من تستحق وضع صورتها على هذا المقال هو «رحمة» ذاتها، التى تجسد رحلة 15 عاما من المعاناة والتحدى فى آن واحد.

قصة تحدى «رحمة» إبنة محافظة الشرقية، والتى أظهرتها الى النور زميلتنا الصحفية «هناء قنديل»، تستحق الامعان والتركيز الشديدين، فى واقع طفلة صغيرة، نحل جسدها، واختفى ذراعيها، الا من أصابع صغيرة مشوهة فى كفها الايمن، حكمة وابتلاء من الله العلى القدير، لتمسك أصابع قدميها أقلام الذهب، تكتب وتعلم أخاها الصغير مبادئ الكتابة، متحدية بهذا أيضا عيب خلقي في الأذن ولدت به، يجعل سمعها ونطقها متعثرًا للغاية. 

استدعيت الى الذاكرة، نبرات الرضا والشكر والحمد، مستذكرا إحدى الحلقات التلفزيونية التى استضافت رجل مكفوف البصر، فقد ـــــ اضافة الى بصره ـــــــ ايضا سمعه، نتيجة تشخيص خاطئ لأحد الاطباء، وكانت جُل أمنيات الرجل أن يعود لسماع الاذان والقرآن مرة أخرى، تتكون أسرته من ثلاثة ابناء وزوجة ، جميعهم من مكفوفى البصر وهو عائلها الوحيد، ومع هذا لاينقطع لسان هذا الرجل عن الحمد والشكر، ولا ينقطع عن السعى الدؤوب لمحاولة العمل لتكسب قوته وقوت أولاده بلا يأس او قنوط. 

ذكرنى اصرار «رحمة» بأستاذى فى الثانوى وكان يدرس مادة التاريخ، كان أيضا مكفوف البصر، وامتهن العمل كهربائيا، نظرا لأن مادته لا يستطيع ان يتكسب منها دخلا اضافيا فى الدروس الخصوصية. 

لم يكن الاستاذ عبد العزيز كهربائيا كما يقولون فى مصطلحات الصانعين «بتاع فيشة ولمبة»، لكنه كان أفضل كثيرا من مهندسى الكهرباء المختصين، فتراه ممسكا بــالشنيور الضخم »الهيلتى» يثقب الجدران فى براعة مصارع، دون مساعدة، يفتح صناديق الكهرباء العملاقة دون اى خوف، يتحسس الاسلاك الخطرة ، يفك طلاسم طريقها الشائك الوعر، على حين يخشي «الكهربائي» المبصر الاقتراب منها من الأصل. 

سألته ذات مرة مرة: « هو حضرتك مش بتخاف من الكهرباء، وكان الاستاذ «عبد العزيز» يتميز بالدم الخفيف والمزاح، فرد قائلا: بشوف السلك العريان بقلبي يابنى، ما فيش مستحيل طول ما بنقول يارب».

فعلا، «ما فيش مستحيل طول ما بنقول يارب»