الإصلاح الاقتصادى وسيلة وليس غاية


بقلم : د. طه عبدالعليم

ليس الإصلاح الاقتصادى غاية فى ذاته؛ لكنه مجرد وسيلة لتحقيق التقدم عبر تعزيز ركائز نظام اقتصادى واجتماعى يكتسب شرعيته واستقراره بتعظيم كفاءة تخصيص الموارد الوطنية، وتأمين عدالة توزيع الدخل القومى. ومن حيث وسائله، يتحقق الإصلاح الاقتصادى بسياسات وبرامج تستوجب المراجعة على الدوام، مادام لا نهاية للتاريخ عند نموذج ما للتقدم، ولأن الحياة تولد بالضرورة تناقضات ومعضلات جديدة تهدد أو تخل بالتوازن الواجب بين الكفاءة والعدالة! ومن زاوية أهدافه، فإن الإصلاح الاقتصادى عملية متواصلة، وهو ما نرى برهانه فى التجربة التاريخية والسياسية للإصلاح الاقتصادى فى أكثر دول العالم تقدما!.
 
وبغير إنكار إنجازات التنمية الشاملة والتصنيع المستقل فى عهد عبد الناصر فقد كان الإصلاح الاقتصادى ضرورة منذ منتصف الستينيات؛ لإعادة بناء اقتصاد الأوامر اشتراكى التوجه المرتكز الى هيمنة الدولة وسيطرة قطاع الأعمال العام حتى يمكن مجابهة معادلة أو معضلة زيادة الادخار والاستثمار مع زيادة الاستهلاك العام والاستهلاك الخاص. لكن سطوة النظام السلطوى ثم هزيمة يونيو بأعبائها لم تترك سبيلا لغير إصلاح جزئى، بينما لم تكن الأيديولوجية الرسمية وبيروقراطية الدولة لتسمح باصلاح جذرى غايته تعظيم الكفاءة والعدالة. ورغم انتصار أكتوبر العظيم لم يكن تبنى سياسة الانفتاح الاقتصادى والرهان على ثورة النفط فى السبعينيات سبيلا للرخاء الذى وعد به السادات، بل ثمن لهزيمة يونيو المريرة والتماسًا لرعاية أمريكية للسلام مع اسرائيل. وتحت ضغوط أمريكية وغربية وصعود قوى الفساد والاستيراد بدأت عملية منهجية لتصفية دور قطاع الأعمال العام فى التنمية.
 
ورغم أن عقد الثمانينيات كان عقدا ضائعا للتنمية فى مصر شأن كثير من البلدان النامية، فقد شهد بداية إقامة المدن الصناعية الجديدة بمبادرة رواد من الرأسمالية الصناعية الوطنية، وبدعم واع وواجب من الدولة. وقد حقق الإصلاح المالى والنقدى فى النصف الأول من التسعينيات نجاحات لا ريب فيها، خاصة وقد خفف من آثاره الاجتماعية السلبية ما تدفق من أموال دول الخليج العربية وإلغاء الديون العسكرية الأمريكية وإسقاط نصف الدين الخارجى العام وإعادة جدولة ما تبقى؛ اعترافا بفضل مصر ودورها فى حرب تحرير الكويت ووقف مشروع صدام التوسعى. لكنه لم يتم البناء على ما تحقق بالتقدم على طريق التصنيع والتنمية، بل وتراجع الاستثمار فى تعميق الصناعة وتطوير الزراعة وصار الاستثمار العقارى بالوعة بلا قرار للمدخرات الوطنية. وفى المحصلة تفاقمت إخفاقات النظام الاقتصادى فى مصر نتيجة الجمع المشوه بين إخفاقات السوق الحرة وإخفاقات اقتصاد الأوامر، خاصة مع الزواج الحرام بين السلطة والثروة.
 
وقد أبرز تقرير لوزارة التجارة والصناعة فى يونيو 2005 تدنى أهم مؤشرات أداء الاقتصاد المصرى بالمقارنة مع أداء اقتصادات اثنتى عشرة دولة منافسة لمصر وتتقارب معها فى مستويات الدخل. وبغير إزعاج القارئ بزحام الأرقام أوجز ما أوردته من التقرير فى مقالات قبل الثورة: أن معدل نمو الاقتصاد المصرى قد تراجع طوال فترة المقارنة! وأن متوسط دخل الفرد من الناتج المحلى الإجمالى ومتوسط معدل نمو الاستثمار المحلى الإجمالى كان الأدنى! وارتبط تدنى معدلات الاستثمار بتدنى معدل الادخار المحلى الإجمالى الذى لم يتجاوز ثلث نظيره فى ماليزيا! وشغلت مصر المركز قبل الأخير وفق مؤشر صافى الاستثمار الأجنبى المباشر للناتج المحلى الإجمالى! وتنتقص وبشدة دلالة ارتفاع احتياطيات النقد الأجنبى فى مصر حقيقة ارتفاع الدين العام المحلى ليزيد على الناتج المحلى الإجمالى فى عام 2004 / 2005! ومع غياب ما يتيحه التصنيع من فرص عمل زاد معدل البطالة فى مصر عن مستواه فى ثماني دول، وأهدر ضعف تنمية الاقتصاد الحقيقى أحد أهم إنجازات الإصلاح المالى والنقدى حيث عاود معدل التضخم الانفلات مجددا! وكشفت سلسلة البيانات الأساسية لوزارة التنمية الاقتصادية عدم كفاءة النظام الاقتصادى فى تخصيص الموارد.
 
وقد صارت مهمة ملحة أمام مصر لمواجهة مخاطر وجذور الأزمة الاقتصادية الراهنة أن تسترشد سياسات الإصلاح المالى والنقدى بما شددت عليه فى مقالى السابق، أقصد الربط بينها والمشروعات القومية الكبرى، من جهة، وبين مقتضيات تعظيم الاستثمار فى الانتاج وخاصة فى تعميق التصنيع والتنمية الرأسية للزراعة، لتعظيم الإنتاج والإنتاجية. ومثل هذا الإصلاح تنموى التوجه ضرورة ليس فقط لمواجهة الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للثورة المصرية وخاصة مع عواقبها السلبية كما حدث فى كل الثورات فى كل مكان وزمان، لكنه- وهذا هو الأهم- باعتباره شرط الارتقاء بكفاءة تخصيص الموارد وعدالة توزيع الدخل وركيزة وتعزيز الأمن الاقتصادى القومى والإنسانى! ولنتذكر أن مراجعة فلسفة وأجندة الإصلاح الاقتصادى ينبغى أن تنطلق من حقيقة سقوط النظم الاقتصادية الأصولية؛ التى انطلقت من وصفة مذهبية جاهزة وجامدة تدعى أنها نهاية التاريخ، سواء كانت الاقتصاد الحر الليبرالى وفق وصفة آدم سميث أو اقتصاد الأوامر الشيوعى وفق وصفة كارل ماركس! وفى هذا الصدد، سجلت فى كراستى الاستراتيجية الأخيرة المعنونة (سقوط الأصولية الرأسمالية) أن دعوة الرئيس الأمريكى الأسبق ريجان الى العقيدة النقية للرأسمالية باستدعاء أشباح آدم سميث وغيره من الآباء المؤسسين لنظرية السوق الحرة قد تزامنت مع دعوة الزعيم السوفيتى الأسبق أندروبوف الى العقيدة النقية للاشتراكية باستدعاء أشباح ماركس وغيره من الآباء المؤسسين لنظرية الاشتراكية العلمية! وقد سقطت الأصوليتان- الشيوعية والليبرالية- بسقوط محاولة جورباتشوف إنقاذ طبعة لينين السوفيتية للاشتراكية! ثم سقوط محاولة بوش إنقاذ طبعة ريجان الأمريكية للرأسمالية.
 
نقلا عن "الاهرام"