هؤلاء يطعمون «السم» لأبنائك


 
بقلم : د. محمد حسين أبوالحسن
 
الأسبوع الماضى، ضبطت الأجهزة الرقابية مدير شركة صناعات غذائية، لاتهامه بتجميع كميات كبيرة من الطماطم المصابة بالديدان والحشرات، لتصنيع الصلصة والكاتشب، وبحوزته 63 طنا من المنتجات الفاسدة وغير صالحة للاستهلاك الآدمى. وأحالته إلى النيابة للتحقيق. “المصائب لا تأتى فرادى كالجواسيس، بل سرايا مثل الجيوش”– كما يقول شكسبير- والشعب المصرى لايكاد يفيق من صدمة إلا على أشد منها، وسط ظروف قاسية، وما يجعل “فضيحة الكاتشب” الأخيرة “مأساة مرعبة” أن الصغار يقبلون عليه بشراهة، فى معظم وجباتهم. عن نفسى أشعر بأسى عميق، أننى كنت أستجيب لرغبات أطفالى وشغفهم بأمثال هذه المنتجات المصنعة، دون أن أعلم أننى أقدم لهم فى الحقيقة “طعاما مسموما” أو”سما” فى صورة طعام. الدليل على ذلك أننى أعجز عن إحصاء عدد المرات التى حملتهم فيها، إلى عيادات أطباء تخصصات مختلفة، لعلاج مرض مفاجئ يروح ويجئ، دون سبب مفهوم، سنوات وأنا أتنقل بين الأسماء الكبيرة من الأطباء ومعامل التحاليل والأشعة والنفقات الباهظة، دون جدوى، حتى نصحنى أحدهم بتسفيرهم إلى دولة أوروبية للعلاج، وذلك قبل أن يكتشف أحد أساتذة طب الأطفال المرموقين أن المشكلة فى الجهاز الهضمى، ويمكن تجنبها بالامتناع عن الأطعمة المصنعة أوشبه المصنعة. المحزن حقا أن “أطباء كبار” أساءوا التشخيص ووصفوا أدوية خاطئة، ذات أعراض جانبية مفزعة، من المؤكد أن أباء كثيرين اشتروا هذه المنتجات المصنعة وقدموها عن طيب خاطر لأبنائهم، غافلين عن أضرارها..!
 
كل هذا بسبب وحشية “غياب الضمير” أو انعدامه لدى البعض، فى بر مصر، فكم من أغذية فاسدة وسلع مهربة تغزو بلدنا، على أيدى مستوردين ومهربين بضمائر تقتات الحرام، فتحولت المحروسة إلى سوق مفتوحة لنفايات ومخلفات العالم الغذائية والصناعية، منذ بدأ الرئيس السادات ما سمى بسياسة “الانفتاح الاقتصادى” –أو” انفتاح السداح مداح”، بتعبير الأستاذ أحمد بهاء الدين- تشكلت طبقة كاملة من مافيا الأغذية الفاسدة، التى أدخلت أسوأ سلع الدنيا وأشدها خطرا، أطعمة، ملابس، مصنوعات، مخدرات، .. هربوها بعيدا عن العيون أو تلاعبوا بإجراءات الاستيراد، واخترقوا الذمم بالرشاوى فكان لهم ما أرادوا..أقبل الشعب على تلك السلع تحت وطأة الحاجة وإغراء رخص أسعارها، فاحتلت مصر مكانة متقدمة بين الأمم فى أمراض خطيرة مثل الفشل الكبدى والكلوى والسرطان وغيرها، أليس غريبا أن يتزامن سقوط إحدى مافيات التصنيع الغذائى، مع سقوط مافيا تجارة الأعضاء البشرية. وبينما كان أطباء مشهورون أبطال شبكة تجارة الأعضاء، كان رجال أعمال وأرباب أموال وملاك مصانع ومستوردون كبار جدا، يشنون حربا على هذا الشعب فى قوته وصحته وأسباب وجوده، بارتفاع أسعار السلع الأساسية، واختفاء الأدوية من الصيدليات، ملوك السوق يعطشونها، قطع الغيار المغشوشة، المنتجات غير المطابقة للمواصفات، وقبل ذلك بزمن تسريب الامتحانات، وشراء الأصوات فى الانتخابات، ثم كم مرة سمعت عن تسمم أطفال المدارس أو الجامعات..إلخ ..إلخ
 
لن أحلف لك.. أن من يقترفون هذه الجرائم هم من ميسورى الحال، بل من الحيتان، مستوردا أو تاجرا أو صانعا، أو طبيب بلا ضمير، لقد كشف البلاغ المقدم ضد شركة “الكاتشب” أنها حققت 390 مليون جنيه مبيعات فى عام 2013 وحده، أتحدث هنا عن فئة معينة ولا أعمم، فما أكثر الشرفاء وأصحاب الضمير الحى.. لكن لا ننسى كذلك أن بعض المؤشرات الاقتصادية تقول لنا: الغذاء الفاسد يستهلك 19٪ من الموازنة، أكثر من 50% من المصريين فقراء، 10 ملايين يعيشون على الكفاف، الاقتصاد غير الرسمى ديناصور عملاق، نزيف مالى خارج رقابة الدولة والمواصفات المطلوبة، يماثل فى حجمه الاقتصاد الرسمى، يلوثون سمعة مصر ومكانتها الصناعية والإنتاجية، بلا رادع حقيقى، يحجمون الصادرات، يرفعون الدولار، يحققون أرباحا خيالية، يزرعون اليأس ويطردون الأمل من النفوس؛ فمن أمن العقوبة أساء الأدب.
 
إذن قل لى بالله عليك، كيف يتمكن هذا الشعب أن ينتصر فى معاركه على جبهات: الإرهاب، تحرير الإرادة الوطنية من فحش الأعداء ومكر الأشقاء، معركة البناء والتنمية.. كيف يقهر المهددات الوجودية المحيطة، وهو يعانى سلوكيات بعض أبنائه معدومى الضمير، وهو يرى الحكومة عاجزة أمام تسونامى الفساد وخراب الذمم ونيران الأسعار المتأججة وآلامها الموجعة، الحسم مطلوب فى هذه الجرائم، كالإرهاب أو أشد. فلا أحد يستطيع يقنع شعبا- فكريا ونفسيا- بخوض حروب على جبهات متعددة، بدرجات: ساخنة وأخرى باردة، وبين بين، هذا لعب بالحاضر والمستقبل.
 
نقلا عن "الاهرام"