الفرنساوى.. الأكثر مصرية!


عباس الطرابيلي

بهدوء.. وبتجاهل مرفوض، مرت أمس ذكرى رحيله عن عالمنا.. يوم 11 مارس 1860، هو فرنسى خرج مطروداً من بلاده. وبعد أن طرده ملك فرنسا لويس الـ18 من الجيش، بعد هزيمة نابليون فى معركة ووترلو.. فاستأجر مزرعة فى الريف الفرنسى.. ولكنه سرعان ما شده الحنين إلى العسكرية.
 
هو الكولونيل جوزيف انتيلمى سيف الذى ولد فى مدينة ليون الفرنسية عام 1787- قبل الثورة الفرنسية بعامين فقط - والتحق بالبحرية الفرسية وعمره 17 عاماً ليصبح ضابطاً بالمدفعية البحرية بعد خمس سنوات.. وخدم فى الأسطول الفرنسى واشترك فى معركة الطرف الأغر.. وعمل مع جيش نابليون حتى انسحب من موسكو واشترك فى معارك المائة يوم دفاعاً عن إمبراطوره.
 
وبعد طرده من الجيش.. وعزوفه عن الحياة فى المزرعة التى استأجرها، حاول الالتحاق بالجيش الفارسى، وبينما هو فى طريقه إلى فارس إيران حالياً» مر بمصر عام 1819 والتقى بواليها محمد على باشا الذى أعجب به.. وأسند إليه المهمة الكبرى وهى تكوين جيش مصرى على الأسس الأوروبية الحديثة.. ولأنه أوروبى مسيحى رفضه الجنود.. ولكن شجاعته غفرت له فسلمه عدداً من شباب مصر، وأرسلهم إلى أسوان عام 1820، لتكوين نواة الجيش المصرى الحديث.. وهناك أنشأ الكولونيل سيف أول مدرسة للضباط ودام تدريبه لهم ثلاث سنوات حتى أصبحوا أول دفعة من الضباط، كانوا نواة جيش مصر الحديث.. بعد أن كان الجيش يعتمد على المماليك والجنود الأنارؤوط بقايا الانكشارية واعتمد سيف على الأسلوب الفرنسى.. واختار له محمد على مدينة أسوان لتكون بعيدة عن دسائس القاهرة.. وأيضاً عن سلوكياتها.
 
وأسلم الكولونيل أوكتاف سيف، واختار له محمد على اسماً عربياً هو سليمان، ومنحه لقب بك وزوّجه من إحدى بنات أسرته واسمها مريم ومنها أنجب ولداً واحداً هو إسكندر، لأن الأب سليمان كان مبهوراً بعسكرية الإسكندر الأكبر، والأم ذات الجذور اليونانية «من قولة» وهى الآن فى اليونان، وهى مهبط أسرة محمد على. كما أنجب ثلاث بنات نازلى وأسماء وزهرة.. وتزوج من الأولى «نازلى» محمد شريف الذى أصبح بعد ذلك رئيس الوزراء مصر، وهو الأب الشرعى للدستور ومن نازلى أنجب شريف ابنته توفيقة هانم التى تزوجها عبدالرحيم باشا صبرى، الذى كان محافظاً للقاهرة ويحمل أحد شوارع الدقى اسمه، وفيه قصره الكبير الذى تحول إلى أكاديمية ناصر العسكرية العليا. وأنجب عبدالرحيم من توفيقة ولدين، أولهما شريف باشا صبرى الذى أصبح وصياً على عرش فاروق عام 1936 وحسين صبرى الذى أصبح محافظاً للإسكندرية، كما أنجب منها نازلى الثانية التى تزوجها السلطان فؤاد قبل أن يتغير لقبه بعد الاستقلال ليصبح ملكاً لمصر، ومن نازلى هذه أنجب الملك فؤاد ابنه الوحيد فاروق يوم 11 فبراير 1920، الذى أصبح ملكاً لمصر، كما أنجب أربع بنات هن فوزية وفايزة وفائقة وفتحية.
 
واشترك سليمان باشا فى حروب مصر: فى اليونان «المورة» بجانب إبراهيم باشا عام 1824، وحروب الشام، ولذلك منحه محمد على لقب باشا تقديراً لخدماته ويقف سليمان وراء كل انتصارات جيش مصر فى الشام، وبعد انتهاء كل هذه الحروب، دعت فرنسا إبراهيم باشا العظيم لزيارتها، فاصطحب معه سليمان باشا «الفرنساوى» وشهدت ساحة مارس فى باريس أكبر عرض عسكرى فرنسى منذ عهد نابليون، حضره أمراء وأميرات فرنسا و60 جنرالاً وكان ذلك اعترافا من فرنسا بابنها سليمان الذى خرج من فرنسا مطروداً وعاد إليها بطلاً عالمياً.. مصرياً.
 
وعينه محمد على رئيساً عاماً لرجال الجهادية، أى وزيراً للدفاع، ولكفاءته احتفظ سليمان باشا بهذا المنصب طوال عهود أربعة حكام لمصر، هم محمد على، وإبراهيم، وعباس، وسعيد، وعنه قال محمد على: لقد خرج سليمان من صُلبى وكأنه أحد أبنائى.. فكان سليمان يرد: أحببت فى حياتى ثلاثه رجال، هم أبى ونابليون ومحمد على.. ولما مات يوم 11 مارس 1860، تم دفنه فى مصر القديمة - فى المنطقة التى يعرفها الناس الآن - باسم الفرنساوى نسبة لهذا القائد العظيم. وقد أمر الخديو إسماعيل بصرف معاش شهرى لأرملته وأسرته اعترافاً بفضله.. بل أمر بعمل تمثال رائع له عندما أمر بعمل تماثيل إبراهيم باشا.. ومحمد بك لاظ أوغلى، رئيس وزراء محمد على، وجده محمد على باشا بالإسكندرية.
 
■ وقبر سليمان باشا - بمصر القديمة - بالقرب من مدرسة الفسطاط الثانوية، وهو عبارة عن قبة خشبية عليها سور معدنى ثم مسجد يحمل اسمه.. وشارع فرعى يحمل نفس الاسم.
 
■ أما التمثال الذى كان يزين أشهر ميادين القاهرة الخديوية ويتوسط شارعه من ميدان الإسماعيلية «التحرير» حتى تقاطعه مع شارع فؤاد، فقد تم نقله إلى المقر القديم لوزارة الدفاع المصرية، ليوضع بدلاً منه تمثال طلعت حرب باشا الذى أطلق اسمه أيضاً على نفس الشارع.. هنا أقترح إعادة وضع تمثال سليمان باشا وسط شارع الخليفة المأمون المقر القديم لوزارة الدفاع المصرية، لأنه وبكل جدارة منشئ الجيش المصرى الحديث الذى نجح فى تنفيذ حلم محمد على بإنشاء جيش مصرى قوى.. وحديث.
 
■ وقد أوصى سليمان نفسه بدفن جثمانه فى تراب مصر التى عشقها.. وله تمثال نصفى آخر فى مقر المعهد الثقافى الفرنسى فى المنيرة بشارع الشيخ على يوسف، وهو الجد الأكبر للملك فاروق بن فؤاد.. والملكة نازلى صبرى.
 
نقلا عن "المصرى اليوم"