مشكلات الاقتصاد المصرى ليست اقتصادية


د‏. جلال أمين

لابد أن نعترف بأن طريقة تناول مشكلاتنا الاقتصادية فى وسائل الإعلام لا تتركنا أكثر فهما لطبيعة هذه المشكلات ولا أكثر اطمئنانا إلى أنها تتلقى العلاج المنشود.
 
نحن نقرأ من حين لآخر أن معدل نمو الناتج القومى فى العام الأخير أعلى مما كان فى السنوات السابقة، أو عن تصريح لهيئة دولية مهمة، كصندوق النقد أو البنك الدولى يعبر عن اطمئنان هذه الهيئة على أحوالنا الاقتصادية، أو عن تقييم أداء الاقتصاد المصرى فى مقارنة بدول أخرى يوحى بأننا أفضل من كثيرين غيرنا. ولكن لاشيء من هذا فى الحقيقة يبعث على الاطمئنان على حالة الاقتصاد القومى بوجه عام، ناهيك عن طمأنة الشرائح الاجتماعية التى تعانى عادة أكثر من غيرها أى مشكلة اقتصادية.
 
فمثلا، إذا قرأنا أن معدل نمو الناتج القومى فى العام الماضى (2015/16) أكبر بمقدار الضعف مما كان فى السنوات الثلاث السابقة عليه، فإن هذا يجب ألا يجلب الغبطة، ناهيك عن الظن بأنه يعنى تحسن أحوال محدودى الدخل. الأرقام الدالة على ارتفاع معدل الأسعار بالمقارنة بثبات الدخول أو بارتفاع معدل البطالة، أكثر أهمية ودلالة على أحوال الفقراء.
 
نحن جميعا نعرف أن التخفيض الأخير و(الكبير) لقيمة الجنيه المصرى بالنسبة للدولار، أو ما يسمى التعويم، قد سبب ارتفاعا كبيرا فى الأسعار ومن ثم تخفيضا ملموسا فى مستوى معيشة شرائح واسعة من المجتمع، إذ تعتمد مصر اعتمادا كبيرا على الاستيراد، سواء فى الحصول على السلعة الكاملة أو مكونات السلع المنتجة محليا، ولكن نادرا ما تذكر وسائل الاعلام أو (تناقش) أسباب هذا الانخفاض فى قيمة العملة الوطنية، أى تشخيص المرض، ومن ثم طريقة علاجه.
 
من أسباب هذا الانخفاض فى قيمة الجنيه تدهور إيرادات السياحة وتحويلات المصريين العاملين بالخارج فى السنوات التالية لقيام ثورة يناير 2011، ومن المؤكد أن سبب الانخفاض فى الحالين سياسى وأمنى أكثر مما هو اقتصادي. ولاشك أيضا أن انخفاض معدل الاستثمار الأجنبى والوطني، بالمقارنة بسنوات ما قبل هذه الثورة، ومن ثم ارتفاع معدل البطالة، يرجع جزئيا على الأقل إلى عدم الاستقرار السياسى.
 
يستخلص من ذلك أن مشكلاتنا الاقتصادية الأساسية الآن (ارتفاع الأسعار، ندرة بعض السلع الضرورية، استمرار معدل بطالة مرتفع) ترجع إلى أسباب سياسية أكثر منها إلى أسباب اقتصادية، وهذا يجعلنا أكثر قلقا وأقل اطمئنانا إلى إمكان التغلب على هذه المشكلات فى الأمد القريب. فالكلام عن الإرهاب لا يتوقف، وفى نفس الوقت لا يظهر إننا نحقق تقدما ملموسا فى القضاء عليه أو التخفيف من خطره، مما لابد أن يفعل اطمئنانا أيضا على أحوالنا الاقتصادية فى المستقبل المنظور.
 
من المهم إذن أن نتساءل عما إذا كانت ظاهرة الإرهاب (وعدم استقرارنا السياسي) ترجع إلى عوامل داخلية أو خارجية، بل وأيضا عما إذا كان الهدف من الأعمال الإرهابية (سواء كان المصدر داخليا أو خارجيا) يتضمن هدف تخريب الاقتصاد، بإشاعة جو من الإحباط والخوف يضعف من الحافز على الاستثمار. إنى أميل بشدة إلى تغليب هذا العامل الأخير، أى أن ممارسة الإرهاب ترجع أساسا إلى رغبة (لدى طرف خارجى فى الأساس ولكن يعاونه بلاشك أطراف فى الداخل)، فى إشاعة مناخ سلبى يقلل من الاستقرار السياسي، ويزيد التدهور الاقتصادى فى الوقت نفسه.
 
من أسباب ترجيحى هذا التفسير ما يحدث الآن، ومنذ عدة سنوات فى بلاد عربية أخري، مما أطلق عليه البعض اسم «الربيع العربي». بينما الذى يحدث لا علاقة له البتة بهذا الفصل من فصول السنة. فتكرار الظاهرة فى أكثر من بلد عربى يقلل من احتمال «الصدمة»، ويزيد من احتمال التخريب المتعمد، إذ ليس هناك من العوامل الداخلية المشتركة بين البلاد العربية ما يمكن أن يؤدى إلى نفس النتائج الاقتصادية، كما أنه ليس هناك ما يدعو للاعتقاد، فيما يتعلق بالاقتصاد، بأن ما يحدث فى بلد عربى ينتقل بأثر العدوى إلى البلاد العربية الأخري.
 
إذا كان هذا التفسير صحيحا أو قريبا من الصحة، أى إذا كان التدهور الاقتصادى نتيجة تخريب متعمد، فأى أمل يمكن أن نعلقه على إجراءات أو سياسات تتخذ على افتراض أن التطور الاقتصادى تطور طبيعى تحكمه عوامل اقتصادية بحتة؟ ما الأمل الذى يمكن أن نعلقه مثلا على تخفيض قيمة الجنيه لجذب السياح، إذا كان السائح الأجنبى لا يأتى لأسباب أمنية، وليس بسبب المقارنة بين ما يحصل عليه من سلع وخدمات قبل وبعد التخفيض؟ أو ما فائدة إلقاء اللوم فى ارتفاع الأسعار على جشع التجار وهم يكادون أن يكونوا بنفس براءة المستهلكين؟.
 
قد تكون مواجهة عوامل التخريب المتعمد أمرا أصعب بكثير من مواجهة العوامل الاقتصادية العادية، ولكن هذه الصعوبة يجب ألا تدفعنا إلى تجاهل الأمر وافتراض أن تدهورنا الاقتصادى يعود على عوامل عادية مما يمكن أن يحدث لأى اقتصاد. صعوبة العلاج لا يجب أبدا أن تدفعنا إلى تفضيل التشخيص الأبسط لمجرد أن علاجه أسهل، وإلا كنا مثل جحا الذى سقط منه دينار فى مكان مظلم فراح يبحث عنه تحت المصباح لأن الإضاءة هناك أفضل. فإذا كان الاعتراف بالحق فضيلة دائما، فإن الاعتراف بأن هناك شيئا غير طبيعى فى أزمتنا الاقتصادية الراهنة، قد يكون شرطا ضروريا للخروج منها.
 
نقلا عن “الاهرام”