عم سيد ديناميت



بقلم: محمد كامل 

لا يعرفه الكثيرون من الأجيال الحالية.. إلا أنه كان "نجم" بالنسبة لأبناء جيلي.. حتى أن صيته امتد لجامعات أخرى غير جامعة عين شمس.. كنا نتوجه إليه صباحا.. نخرج من باب "حقوق" لنتوجه إلى تقاطع منشية الصدر مع مترو مصر الجديدة –وليس مترو الأنفاق- كنا نتجه إليه بحكم حالة واحدة "الجوع".. لم نكن نهتم بأن معنا "فلوس" أو لا نملك.. كنا كثيرا ما نسير من الجامعة بموازاة مترو الأنفاق إلى عين شمس، لعدم وجود حق "العودة" معنا.. كنا نطلب منه "سندوتش" الديناميت.. وكنا لمراعاة ظروفنا الاقتصادية رغم "رخص" سعر سندوتش "الديناميت".. إلا أننا كنا نقلل في العدد.. كان يلاحظ فيتوجه إلينا حاملا عشرين "سندويتش".. ويضعهم أمامنا.. نخاطبه  جميعا بصوت واحد: لم نطلب ذلك يا عم "سيد".. يبتسم قائلا.. اليوم "عيد ميلادي" وأنا لا أوزع "الجاتوه".. أنا أوزع سندوتشات الديناميت..
 
كان الرجل يحتفل بعيد ميلاده بالنسبة لمجموعتنا فقط أكثر من 20 مرة شهريا.. وكان الحال يتكرر مع مجموعات أخرى.. كان سعر السندوتش ربع جنيه.. ممتلئ.. فول وطعمية وباذنجان وبيض إضافة إلى السلطات.. وكان سعره فقط "ربع جنيه".. وكثيرا ما كنا لا نملك الربع جنيه.
 
كان الرجل ساخطا على مبارك.. عاشقا لجمال عبد الناصر.. لأنه "شغل" أباه.. وعلمه مجانا.. كان من أوائل من عارضوا مبارك.. وكان لا يصفه إلا بابن الـ $%$^&^%.. وكان يتنبأ دائما بأن مبارك ستكون "اخرته على ضهره".. كان أول معارض حقيقي التقيناه في مطلع شبابنا.. وكان الكل يصدح بتبجيل وتجيليل مبارك.
 
كان يقف بين رجاله في مطعمه كالقائد في حربه.. تختلط الشعرات البيضاء بالبنية في شعره البني الذي يشابه تسريحة وشعر "أنور وجدي".. كان يلقى أوامره لرجاله وعددهم 6.. واحد على الطعمية.. وآخر يفرز العيش ليتخلص من الرغيف الذي يجد فيه أتربة أو "زلط" أو "حشرات".. كان الزحام شديدا.. رغم ذلك كانت إدارته تنجح في أن لا يمكث أحد أكثر من 5 دقائق..

كان "الأسد" فينا لا يقدر أن يأكل أكثر من "سندوتشين ديناميت" سعرهم نصف جنيه.. أو مجانا.. أو احتفالا بميلاد عم سيد رقم المائة في هذا العام.. وكان لا يدعو أحد إلى المغادرة بعد انتهاء المكان رغم ضيقه.. كنا نجلس نتبادل الحديث.. كنا نشعر معه بنوع من الأمان والحنان.. والتقدير الذي كنا في أشد الحاجة إليه.. نحن الطلبة الفقراء.. الواضح علينا سمات الفقر المتلازمة لسمات التدين.
 
كان ذلك منذ ما يقرب من عشرين عاما.. التقتيه.. اليوم.. كما هو.. عم سيد ديناميت.. وضعته في حضني.. أو وضعني في حضنه.. لا أعلم.. تذكرني.. رغم اشتراك الالاف من شباب جيلي في عشقه.. لم يتغير كثيرا.. طغت نسبة اللون الأبيض على اللون البني في شعره الناعم المائل إلى اليسار.. فقد سنتيه الأماميتين.. تبدل محله من محل ديناميت لمحل ملابس.. أجره لأن الصحة باتت على "القد".. وفتح محل عصير امام محل ذكرياتنا.. رغم تعبه.. لا يستطيع أن يجلس في البيت بين أبنائه.. ما زالت فيه روح المقاتل.. ورغم السنين.. ما زالت عيناه تشع ذلك الوميض والبريق والانعكاس الفرح.. تبادلنا ذكرياتنا أثناء احتسائي كوب عصير "مجانا" اعده بنفسه.. وأنا أحدثه نظرت في مرآة المحل.. لم تكن صورتي الحالية التي أمامي.. كانت صورتي منذ عشرين عاما وسط رفقتي.. بجسدي النحيل.. رغم.. قامتي الطويلة إلا أن وزني كان لا يزيد عن 60 كيلو جرام.. وكان أكبر ما في جسدي رأسي.. كأنها بعرض أكتافي.. لا لعرض رأسي.. ولكن لصغر أكتافي.. وكان أكبر ما في رأسي شعري شديد الكثافة والخشونة والسواد .. أرتدي بنطلوني "الجينز" الوحيد والقميص الذي لا يتغير.. وكانت يدي خالية إلا من "أجندة" المحاضرات.. تبدلت صورتي.. عادت "الحالية".. وزن زائد.. قارب المائة.. خاصم شعر رأسي شديد الكثافة والخشونة والسواد رأسي فـ"طار" بعيدا.. وتبدلت "الأجندة" وامتلأت يدي الخاوية قبل عشرين عاما بأجهزة تليفونات يزيد سعرها عن الخمسة آلاف جنيه.. وتبدل "الجينز" الوحيد.. والقميص الذي لا يتغير أصبح "بدلة" زاد سعرها على "الألف جنيه".. صدمت الصورتين مخيلتي.. شددت يدي بقوة على يد عم  سيد.. ألصقت على ظهر يده قبلة عرفان للرجل الذي أطعمني من جوع.. احتضنته.. وانصرفت باكيا.. يراودني خجل من نفسي.. سمعت روحي الآية تتردد داخلي ".. وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما"