ام عيش السرايا !


بقلم: محمود صلاح
 
أوعى تنسى .. عيش السرايا بالقشطة ؟
قالتها بدلال وهى تودعه على الباب . فى طريقه إلى موعده بعد كل غروب إلى المقهى . وابتسامة حلوة تزين فمها وعينيها العسليتين .
فكر فيها وهو ينزل سلالم البيت بعد أن أغلقت الباب خلفه فى بطء . وظل يفكر فيها طوال الطريق إلى المقهى . ما أغرب تلك المرأة التى حطت ذات يوم على حياته دون موعد . مثل طائر مهاجر عاد إلى موطنه الأصلى بعد رحلة عناء.
الحب ليس له سبب أو تفسير . هو اعتقد أن ملامح وجهها حين شاهدها أول مرة هى الحب . أما هى فقد رأته مصادفة . وفى الحال أخبرها قلبها أن القدر لابد أن يكتب بينها وبينه حكاية ما .
أيامها كانت حصبية دخيلة على عالم النساء . جميلة بزيادة أنوثتها طغت على طفولتها . لكنها كانت تحت الملابس طفلة .
وأيامها كان هو يصارع الدنيا والحيرة والعذاب اللذين ولد وعاش بهما ومعهما . وكان يذرف دموعه كلمات يكتبها لكل الدنيا . كثيرون عرفوه وأحبوه لكنه دائماً كان ينتظر شيئاً آخر . كان ينتظر مجهولاً . يتمناه دون أن يعرف ملامحه . كان ينتظر موعده مع حكاية قدره . كان ينتظرها .
الحب ليس له منطق أو عقل . وحين وقع كل منهما فى حب الآخر . عادا نفس الطفلين الذين تخفيا تحت الملابس . حين يناديها كانت تهرع اليه فى أى وقت من النهار إلى الليل . أما هو فكان يلقاها ويعود ليجلس وحيداً فى الظلام . ليفكر فيها .
كان كمن مسه جن أو أصيب بالسحر . فى غمضة عين اختزل الدنيا كلها فيها . وفى اسمها . كل شىء اصبح له لون ورائحة وشكل ومذاق جديد . معها اكتشف لأول مرة الأشياء التى ظن العمر كله أنه يعرفها . وهو لم يكن يعرفها .
معها عرف لحظة الفرح الصادقة . ومعها عرف لسعة الألم الحقيقى . معها عرف السعادة وذاق الشقاء . معها ضحك قلبه وبكت عيناه . معها عرف معنى الحياة . ومعها عرف ما هو الحب .
وهى عندما امتلأ قلبها عن آخره بحبها له . وجدت نفسها لدهشتها متورطة تجاهه بمشاعر عنيفة غير الحب . شعرت بين ليلة ونهار أنها أمه . وأنه طفل صغير رقيق . ففتحت له حضن الأم . وجرى هو إلى داخله واختبأ.
وكانت لهما مع الأيام حكايات . عرفا الشوق الموجع . والغيرة المسمومة . والفراق الذى هو عذاب فى عذاب . وقال كل واحد منهما للآخر أنه يكرهه من قلبه . وبات كل واحد منهما وحيداً يلعن الآخر . والناس والأيام .
هل ما بقى من العمر يسمح لنا بأن نضيع هذا الباقى القليل . أيوجد آخر يمكن أن يعطينا نفس حب واخلاص الحبيب الذى فارقناه وفارقنا ؟ وهل فى هذه الدنيا عزاء لمرارة ومشاعر الوحدة التى اختارتها لنا أعصابنا المتعبة الملتهبة ؟
سأل كل منهما نفسه . ليلة بعد ليلة. ولم تطل الحيرة . فى نهار اليوم التالى وما أن طلع نور الصباح . حتى ارتدت ملابسها على عجل . وقررت أن تذهب اليه فى الحال . ستقول له أنها تحبه لآخر نفس فى حياتها . وأن غضبها فشل فى دخول قلبها . ستقول له أنها سامحته . وأنه حبيبها . وأنه ابنها . حيث هبطة السلالم توقفت عند باب البيت كأن السماء قد أمطرت فجأة فى يوم صيف . وجدته واقفاً بشحمه ولحمه . وعيناه كانتا حمراوتين .
كل يوم بعد صلاة الفجر . أمشى من الجامع فى الظلام حتى بيتك . وأظل فى مكانى أتطلع إلى شرفة حجرة نومك .
لم يجد ما يقوله سوى تلك الكلمات أما هى فقد انحبست أنفاسها وزغرد قلبها .
" أحبك" .
قال
تعبت معك .. وتعبت من غيرك .
همست.
لكنها أعطته يدها . فأمسك بها حتى اليوم . بعد أن عادا . ولم يقتل الألم الحب . واصبح كل منهما يتحدث إلى الآخر بنظرات العيون أكثر .
وفى الليل نياما وكل منهما يمسك بيد الآخر .
حان موعد انصرافه من المقهى وعودته إلى البيت . حين دخل وجدها راقدة فى الفراش والموسيقى تنبعث من راديو صغير . غلبها النعاس فأغلقت عينيها . وأضاء وجهها الجميل ظلام الغرفة.
ظل يستمتع بالنظر إلى وجهها الحبيب وهى نائمة . ثم لمس شعرها فزت . ففتحت عينيها وابتسمت فى نفس اللحظة .
قال وهو يفتح لفافة كان يحملها معه :
" عيش السرايا " .
قالت وقد اتسعت ابتسامتها . وفى احدى عينيها طفلة بريئة . وفى العين الأخرى انثى ليس لها حل .
" بالقشطة " ؟