«الأسطورة»


صبرة القاسمي

هل رأيتم يوما "الأسطورة".. ربما التقيتم به.. سائرا في أحد شوارع "بنت المعز".. جالسا على أحد مقاهيها مختلطا بروادها.. هو على عكس باقي الأساطير.. فكل الأساطير "كانت" وانتهت.. إلا أنه حي يرزق.. يعيش بيننا.. اختار أن يتوارى عن الأنظار.. يشترك معها في أنها رواية أحداث خارقة للطبيعة لا يمكن تصديقها.. وكذلك حكاياته.. خارقة للطبيعة.. لم يروي منها شيئا.. لكن من رأوا "حكوا" وأنا ممن رأيت.

لثلاثين عامًا.. كان حجر الزاوية في حرب مصر على الإرهاب.. جنبها مصير كان محتومًا لها.. بفضله وجيله.. ما كان محتوما لمصر.. تحول إلى دول أخرى "العراق – سوريا- ليبيا"عانت وتعاني وستعاني لافتقادها "الأسطورة".

كعادة الأساطير.. أبطالها رهبان.. جمع الرجل بين الأسطورة وبطولتها ورهبانيتها.. فكان "راهبًا" لقضيته الكبرى "مصر".. حبيسًا اختياريا كرهبان الصحراء.. إلا أن محرابه كان مبنى أمن الدولة في لاظوغلي.. ومدينة نصر.. وحين يخرج منها فإنه في أي مكان كان فيه إرهاب وأعداء.. وأنا كنت من الأعداء.. والحق ما قالت به الأعداء وأنا اليوم "الحق أقول لكم" في غير مكان رهبنته بين أروقة جهاز أمن الدولة في زمنه الجميل.. كان في الساحات مهما كان مكانها.. جميع محافظات مصر.. في جبال الصعيد والبحر الأحمر.. في الصحراء الشرقية.. في الصحراء الغربية.. في سيناء.. على الحدود.. خارج مصر في أفغانستان وباكستان وأديس أبابا  في أوربا وأمريكا.. وجوانتنامو.. راهبا في الداخل وراهبا في الخارج.. راهبا في محراب قضيته الكبرى التي لم تخرج يوما من صدره راهبا لأجل مصر.
 
فيما بين الضلال والهداية في أوائل التسعينات التقيتهم.. ثلاث شباب تجاوزا الثلاثين.. أعرف منهم اثنين.. كانا من أكبر قيادات القاعدة.. وفتح الأربعة صدورهم لي.. صديقاي من باب الثقة.. والآخران من باب تزكية صديقيّ لي.. عادوا من أفغانستان.. في عز احتدام القتال بين المجاهدين والمجاهدين وبين المجاهدين والقبائل.. أعادهم "الأسطورة".

من مصر إلى باكستان إلى أفغانستان.. سافر وحده.. واستطاع أن يصل إليهم.. وما بين وصوله إلى باكستان حتى وصوله إليهم في جبال أفغانستان داخل كهوف القاعدة تفاصيل لا يعلمها غيره.. هداهم.. أنقذهم من نيران حرب تورطوا فيها باسم الدين.. وأقنعهم بالعودة.. وأعطى لهم الأمان.. فعادوا

طريق الرحلة من أفغانستان إلى باكستان استمر اسبوعين.. كان الأربعة يحملون أسلحتهم.. وكان دون سلاح.. ذلك ما أثار تعجبهم.. قوته.. جرائته.. حجته.. علمه بالمجاهدين وأحوالهم.. قدرته على تفنيد مقولات كبار شيوخ الجهاد.. كأنه أحد كبارهم أو أكبرهم.. عادوا إلى وطنهم.. وإلى صوابهم.. كان للرجل فضل هدايتهم.. وفضل حياتهم.. وهم الآن ركائز كبيرة ضد الإرهاب.. وسبب رئيسي لرجوع آلاف الشباب عن القتل باسم الدين.

في عزاء أحد شهدائنا في حادث الواحات الارهابي الأثيم رأيته.. فما كان له أن يتخلف.. فمن انتقلوا إلى ربهم شهداء أحياء يرزقون ... أبنائه.. صامتا حزينا.. على كتفيه آلام كثيرة.. لا يراها إلا من يعرفه جيدا.. وأنا أعرفه جيدا.. وكيف لا أعرفه وهو سبب هدايتي ورعايتي.. ملت عليه قاطعا الصمت.. سألته عن واقعة أفغانستان وتفاصيلها.. رد بحزن سببه رحيل فلذات أكباده من أبنائه الأبطال: أضع أمامي استراتيجية لا تتغير.. قتال شرس لمن حمل السلاح.. تحييد من لم يحمل السلاح وحمل الأفكار.. واحتواء حاملي الأفكار وهدايته.

الأسطورة.. الدكتور.. أبو الدحداح.. وغيرها من ألقاب من أطلقها عليه أعدائه من الجماعات الإسلامية بأنواعها الذين شهدوا له قبل أصدقائه.. ولكل لقب حكاية.. الجميع يفضلون الاسطورة.. وأنا اسميه "حجر الزاوية"

ترونه كل يوم على أحد المقاهي جالسا وحيدا.. وفي رحاب شوارع القاهرة.. وفي الأسواق.. والمواصلات العامة.. لعله كان جليسكم يوما في أحد الجلسات الودية بأحد المقاهي.. لكنكم لن تعرفوه.. فمثله وجيله أساطير تعيش بيننا.. عاشوا لـ"الوطن".. ونزفوا لأجله دون أن نعلم عنهم شيء.. ودون أن نعرف "حجر الزاوية"