الملكية العامة وعجز الموازنة


عبد الفتاح الجبالى

«إن الإصلاح الاقتصادى بمفهومه الشامل لا يتوقف عند المؤشرات الكلية للأداء الاقتصادى فقط ، ولكنه يشمل أيضاً الإصلاح الإدارى لمؤسسات الدولة، وإعادة هيكلتها واستعادة الشركات والهيئات الاقتصادية التابعة للدولة، لدورها الذى يجب أن تقوم به بشكل اقتصادى، محققة عائدات تسمح لها باستمرار التطوير والمساهمة بقوة فى دفع عجلة النمو والبناء».

بهذه العبارة المهمة ختم رئيس مجلس الوزراء حديثه فى المؤتمر الاقتصادى لأخبار اليوم واضعا يده على موضوع مهم من الموضوعات التى مازالت غائبة عن الحوار الوطني، ولا تحظى الا بالنذر اليسير من الاهتمام، ونقصد بها تحديدا اوضاع الوحدات الاقتصادية المملوكة للدولة، والتى كانت من المفترض ان تلعب جانبا مهما فى الحد من عجز الموازنة عن طريق ما تحققه حقوق الملكية فيها، والتى تمثل حقا للخزانة العامة، وللأسف فهذا لم يحدث الا فى القليل النادر. فعلى الرغم من ان الملكية العامة فى مصر كبيرة ومتشعبة حيث تتراوح بين الهيئات الاقتصادية (51 هيئة) وشركات قطاع الاعمال العام الخاضعة للقانون رقم 203 لسنة 1991 وعددها 8 شركات قابضة و156 شركة تابعة،

فضلا عن شركات القطاع العام الخاضعة للقانون رقم 97 لسنة 1983، وعددها 47 والشركات القابضة النوعية التابعة للوزارات ( وعددها 14 شركة تتبعها 91 شركة تابعة) والشركات الخاضعة لأحكام القانون 159 لسنة 1981 وبنوك القطاع العام والتنمية والائتمان الزراعي، فضلا عن الشركات الخاضعة لبعض الهيئات الاقتصادية مثل هيئة البترول، ويتبعها 12 شركة وقناة السويس وتتبعها 7 شركات وغيرها. ناهيك عن الشركات المشتركة وهى التى يسهم فيها المال العام من مختلف المؤسسات، سواء كانت بنوكا عامة او شركات قابضة ونوعية، ويبلغ عددها نحو 704 شركات برؤوس أموال قدرها 683 مليار جنيه. وهى فى معظمها تخضع لقانون 159 لسنة 1981، وأيضا 95 لسنة 1992 وقانون 8 لسنة 1997.

ونظرا لان هذه الكيانات تعتبر وحدات مستقلة ذات شخصية اعتبارية ولها استقلالها المادى والإداري. فان العلاقة بينها وبين الموازنة العامة للدولة بمثابة علاقة ملكية تتركز فى نتائج الأعمال وعلاقة تمويلية تتركز فى المساهمة والإقراض. ومفترض ان تحقق هذه الجهات الهدف من استقلالها، وان تدار على أسس اقتصادية وتجارية تمكنها من تحقيق فوائض مالية، أو على الأقل تسهم فى تمويل نفسها ذاتيا وبالتالى تخفف العبء عن الموازنة العامة للدولة الا ان هذا لم يتحقق بالنسبة لعدد كبير منها. بل وظلت هذه الجهات تحقق خسائر متراكمة عبر السنوات مما ادى الى التدخل لتمويلها من جديد وبأموال طائلة للغاية،

كما أن الفوائض المحولة للموازنة العامة للدولة من بعض هذه الجهات، لم تعد تتناسب مع الأموال المستثمرة فيها، ومع ما تسهم به الموازنة فى هذه الجهات، فعلى الرغم من التحسينات التى دخلت على السياسة المالية إلا إنها لم تؤد الى زيادات الإيرادات العامة للدولة بل على العكس نلحظ أن الإيرادات العامة للناتج المحلى قد انخفضت من 19٫6% عام 2011/2012 الى 17% عام 2015/2016. وهذه الإيرادات تأتى من الضرائب والمنح والايرادات الأخري، مع ملاحظة ان هناك تراجعا هيكليا فى مساهمة عناصر الإيرادات الأخرى ( والتى تأتى أساسا من أرباح الشركات والبنوك العامة والهيئات الاقتصادية وغيرها).

وهنا نلحظ ان الأرباح المحولة للموازنة العامة من هذه الكيانات قد ارتفعت من 41٫3 مليار جنيه عام 2010/2011 الى نحو 64 مليار عام 2015/2016 ( وفقا للحسابات الختامية للدولة) بينما زادات الإيرادات العامة ككل من 265٫3 مليار إلى 659 مليارا وبالتالى انخفضت نسبتها من 15% الى 10% من اجمالى الايرادات. كما تشير الإحصاءات الختامية الى ان اجمالى ما آل الى الخزانة العامة من الهيئات الاقتصادية قد وصل الى 88٫4 مليار جنيه فى ختامى 2015/2016، وفى المقابل ارتفع اجمالى ما اتاحته الخزانة العامة للدولة لهذه الكيانات (سواء كان فى صورة دعم او مساهمات) بلغ 143 مليارا خلال نفس الفترة ليرتفع صافى العلاقة بينهما بالسالب الى 67٫5 مليارا.

مع ملاحظة ان معظم ما يؤول للخزانة يأتى أساسا من البنك المركزى والذى ارتفع الى 29٫5 مليار عام 2015/2016 وذلك بعد ان كان قد توقف عن هذا التحويل وكان يتم ترحيل حصص أرباح بنوك القطاع العام الى حساب الاحتياطيات بهذه البنوك بهدف تدعيم مراكزها المالية ومساندتها ابان الأزمات المالية الدولية. وعلى الجانب الآخر تراجع فائض هيئة البترول من 25٫4 مليار عام 2014/2015 الى 7٫8 مليار عام 2015/2016 نتيجة للإصلاحات التى أدخلت على سياسة الدعم.ومن الأمور المهمة فى هذا الصدد رؤية مسئولى هذه الكيانات للعلاقة مع الموازنة حيث يرون انهم من حقهم التصرف الكامل فى الفائض المحقق لديهم،

وبالتالى يقومون بتمويل العديد من الأنشطة الاجتماعية والثقافية بأموال طائلة بزعم المسئولية الاجتماعية وانهم خارج الموازنة، ناهيك عن حصول بعض الشركات القابضة على احكام قانونية بعدم تطبيق الحد الأقصى للدخول عليهم رغم انهم معينون عن طريق وزير قطاع الاعمال العام، والذى جدد لمعظمهم فى الآونة الاخيرة. حيث أصدرت الجمعية العمومية لقسمى الفتوى والتشريع فتواها بعدم خضوع العاملين بشركات قطاع الاعمال العام وكذلك رؤساء وأعضاء مجالس ادارته لقانون الحد الأقصي، مستبعدة بذلك الشركة المصرية للاتصالات والمقاولون العرب وبعض البنوك وغيرها وبذلك يكون قد أغفل تماماً الهدف الأساسى من وضع الحد الأقصى وهو الحفاظ على المال العام.من هنا يصبح التحرك نحو إصلاح هذه الكيانات ضرورة قصوي، ويحتاج إلى سلة من الإجراءات والسياسات تتفاعل مع بعضها البعض وتتناول جميع جوانب الأطر المالية (الإيرادات والنفقات بل وأيضا أسلوب التصرف فى الفوائض).

وكلها أمور تساعد على المساهمة فى علاج عجز الموازنة، الذى اصبح فى مرحلة حرجة رغم الإجراءات العديدة للعلاج، ولكن مع التنبيه على خطورة علاج العجز بمزيد من الانكماش، لانه يعطل التنمية، ويزيد من مشكلة البطالة، ويؤثر بشدة على مستوى معيشة الأفراد. ولذلك فان علاج العجز لايعنى القضاء عليه بل الوصول به الى مستويات مقبولة مجتمعيا. وان هذا العلاج سوف تترتب عليه، تكاليف معينة يجب ان يتحملها المجتمع وفقا لاعتبارات العدالة. فضلا عن ضرورة ان يتم على مدى زمنى متوسط وطويل الاجل.

نقلا عن "الاهرام"