خواطر في حبِّ الوطن.. التأويل، وشراكُ الرّكون للدوال المعجمية


ياسر عثمان 

للتدليل على خطورة الركون في التأويل والفهم إلى الدوال المعجمية للكلمات نصوغ هذا المثال:

يريد البعضُ أنْ يوهمَ (حدثَ ذلك من شيخ أزهري متخصص في التفسير يحمل رسالة الدكتوراه) أنَّ في القولِ " إنَّ أبا بكرٍ، أو عثمان رضي الله عنهما هو أول من جمع القرآن" تعارضًا مع قول الحق سبحانه وتعالى" إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ" (القيامة 17). وإنَّ هذا البعض المشار إليه تراه بعد أن يفتعل هذا الإيهام يزيله بقولهِ إنَّ الله سبحانه هو الذي جمع القرآنَ، ليسَ أبا بكرٍ، ولا عثمان. وللتدليل على جهلِ هذا البعض المشارِ إليه، علمًا، ومنهجاً، وطريقةً في الاستدلال والاستنباط نسوقُ ما يأتي:
 
 
إنَّ العرب درجت في خطابها على استعمال المفردة في سياقاتٍ مختلفةٍ بمعانٍ مختلفة؛ ولهذا فقد أنتجوا لنا أبحاثا كثيرةً في دلالةِ السياق...وبما أنها درجت على ذلك في نحتِ الكلمات واستعمالها، فمن البداهةِ أنْ تنظرَ للسياقِ بوصفهِ حاكماً على الدلالة.

ولذلك فهي تحمل جمع أبي أو عمر للقرآن على دلالةِ الترتيب والجمع بين دفتي كتاب، وتحمل الجمع الوارد في قوله -سبحانه وتعالى-" إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ" على دلالة حِفظِ الله قرآنَهُ وقضائهِ سبحانه وتعالى كونًا ببقائِهِ متواترًا. وبإحالةٍ بسيطةٍ على منتج الإمام الشاطبي-رحمه الله-وتحديدًا كتابه "الموافقات" يتجلَّى ذلك واضحا؛ إذْ يقول "" إنّ العرب فيما فطرت عليه من لسانها، تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يُرَاد به الخاص، والظاهر يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يُعرَف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتتكلّم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله، وتتكلّم بالشيء يُعرف بالمعنى كما يُعرَف بالإشارة، وتُسمِّي الشيء الواحد بأسماء كثيرة والأشياء الكثيرة باسم واحد، وكل هذا معروف عندها، لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلّق بعلم كلامها، فإذا كان كذلك فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب " 

ومن هذا التعريف يتجلى كم تتنوع وتتعدد مفاتيح فهم الخطاب وعتبات فهمه ومرتكزات قراءته؛ فهو يفهم بإجراءات متعدد للقراءة والتلقي منها كما يتجلى في التعريف:

1- حمل ما فيه من العام على الخاص، والعكس.

2- حملُ ما فيه من الخاص على الخاص في وجه وعلى العام في وجهٍ آخر.

3- حملُ ما فيه من العامِ على العامِ كما هو.

4- حملُ ما فيه من الخاص على الخاص.

5- ردُ آخره إلى أوله من حيث المعنى، والعكس (أي الاحتكام إلى السياق الكلي للخطاب).

6- حملُه على ظاهره، أو على غير ظاهره.

7- تأويل وفهم ما بالخطاب من إشارات أخرى تأتي من خارج لسان المتحدث.

8- حمل الكلمات المتعددة والمتنوعة في الخطاب الواحد على معنىً واحدٍ مشترك.
 

إنَّ الآيةّ السابقة لهذه الآية وهي قوله -سبحانه وتعالى-” لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ " (القيامة 16)، والآية 9 من سورة الحجر، وهي قوله -سبحانه وتعالى-إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" والآيات: " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ " (فصلت41:42) و" وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا " (الكهف/27) و " وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ. بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ " (العنكبوت 48:49) و" وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ " ( الحاقة 44:47) و" ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2)، كل هذه الآيات ومعها الحديث الذي رواه الإمام مسلم عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ : "أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا : ....


إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ .." – كلُّ ذلك ليدلُّ دلالةً قطعيةً على أنَّ الجمع المذكور في القرآن محمولٌ على دلالة الحفظ بكافة صوره: الحفظ من الضياع، والحفظ من التبديل والتحريف، والحفظ من التشكيك، والحفظ من الزيادةِ عليه أو النقص منه، والحفظ من أن يأتيه الباطلُ من بين يديه أو من خلفه. وعليه فإن ما يذهب إليه البعض ممَّن عرفوا عن اللغةِ شيئاً وغابتْ عنهم أشياءٌ من حمل المفردات على دلالتها المعجميةِ منفردةً شاردةً بعيدةً عن دلالتها سياقا وعرفا ففيه افتئات على العلم وتجرؤٌ على ثوابت المنهج.