حسن #*$ الدنيا !


بقلم: محمد كامل

أمسك بيده زجاجة “عمر الخيام”.. أردأ وأرخص أنواع النبيت “النبيذ”.. ليرفعها عاليا ويضعها على فمه بينما رأسه عالية للسماء.. وعقب كل شربة.. يتراقص ويصيح.. أنا حسن #*$ الدنيا.. أنا حسن #*$ الدنيا.

لم يكن يفق من سكرته ومعه رفيقه سيد “سبع الليل” من النبيذ الرخيص أو “البرشام” الأرخص إلا قليلا.. وكان في فوقته ورفيقه يتفقان على كيفية الحصول على النبيت “النبيذ” و”البرشام”.. وإن ضاقت الدنيا.. “السبرتو” الأحمر المستخدم في “سبرتاية” إعداد القهوة.. وإذا ابتسمت لهما الدنيا كان لهما في سلطان الكيف “الحشيش” نصيب.. وهو للحق كان “سلطانا” بالفعل.. ولا يمت لـ”حشيش” هذه الأيام بصلة من حيث الجودة.. وما كانا يفيقان إلا ليغيبان عن الوعي في بحر المخدرات الرخيصة والقاتلة.. وكانا أشهر عائمين في بحر الكيف من عرب المحمدي.

اشتهر بـ”صيته” الذي حصل عليه بجهده وعرقه ونداءاته المتكررة في “سكرته” وفي مشاجراته.. فأصبح اسمه مقترنا به.. نسى الناس اسم أبيه وعائلته وصار “#*$ الدنيا” علما عليه.. ذهب اسم أبيه وبقي #*$ الدنيا.

لمن كان يعرفه أولا كان يتعجب من الاسم ويضحك.. أما أهالي عرب المحمدي فكان الاسم “صيتا” له.. فلم يجدوا أي استهجان.. حتى أن الوقورين في “عرب المحمدي” كانوا لا يجدون غضاضة من ذكر اللقب.. فحينما يقولون حسن ويسألون حسن من حسن البربري؟.. كان يأتي ردهم حسن #*$ الدنيا.

يدخل اللفظ في باب السب والقذف.. فهو من أسوء الألفاظ وأشنعها التي تستفز الخصم.. وتعني الاستهانة الشديدة به.. استخدمه الشاعر الماركسي نجيب سرور اسما لأشهر قصائده بصيغة الجمع.. وكان حسن #*$ الدنيا يستخدم اللفظ بذات المعنى.. الاستهانة من الدنيا كلها ومن فيها. في صغره ورفيقه سيد سبع الليل لم ينجحا في أن يحذوا حذو رفقائهم الأقلية أو الأكثرية..

فلم يكونا مثل الأقلية النادرة في عرب المحمدي التي استطاعت أن تنهي تعليمها لتحصل على وظيفة “ميري”.. أو مثل الأكثرية التي لم تدخل المدارس.. أو تسربت من التعليم في سنواتها الأولى ليتعلموا “صنعة” تقيهم شر الحاجة.. وما أكثر شرور الحاجة في عرب المحمدي.

كان حسن #*$ الدنيا يتمتع عن باقي قرنائه والأكبر منه سنا بقوة منبعها جراءة شديدة.. شاركه فيها رفيقه سيد سبع الليل.. لكن سبع الليل لم يكن له مثل ما لحسن #*$ الدنيا من جراءة أو قدرة على التخطيط والتفكير.

انصرف الرفيقان عن محاولة الالتحاق بأي “صنعة” بعد فشلهما فيها.. وانتهائها غالبا بالاعتداء على “الأسطى” صاحب الورشة.. فبدأ نشاطا خاصا بهما..

كانا يقلبان أرزاقهما ليلا من المارة آخر الليل في شارع لطفي السيد.. أو النائمين في الحدائق العامة.. إلا أنهما للحق لم يتعرضا يوما لأي من أبناء منطقتهما “عرب المحمدي”.. وكانا يقبلان شفاعة كل أبناء عرب المحمدي حتى لو صغُر عمره وشأنه.. كانت سمة منتشرة في كل أصحاب أعمال القوة والعنف و”الشقاوة” في ذلك العهد.

اشتهر أمرهما.. وقبض عليهما أكثر من مرة.. وكانا نزيلين شبه دائمين في حجز قسم “الوايلي”.. وأصبحا من المسجلين خطر.. وفي أحد غزواتهما.. كانت تمر عربة “كارو” ليلا.. يجرها حمار مرهق.. وسائق وحيد.. وعلى سطحها إلى جوار “الخضار” شوال كبير الحجم.. استوليا عليه بعد أن هددا سائق “الكارو” بالمطوتين القرن اللتين لا تفارقهما أبدا.. وعادا إلى عرب المحمدي يتقاسمان مسؤولية حمل الغنيمة.. التي ستغني بيتهما أياما.. وقبل أن يدخلا عرب المحمدي.. قابلتهما قوة من قسم الوايلي..

سأله الضابط: يا حسن #*$ الدنيا.. ماذا تحملان.. أجابا بأنهما يحملان شوال خضار.. أمر الضابط جنوده أن يفتحا “الشوال”.. فوجدوا فيه جثة لرجل مقطعة لأجزاء.. أقسم حسن #*$ الدنيا انهما استوليا عليها هو وسيد سبع الليل من فوق عربية كارو.. بحث الجنود عن تلك العربية فلم يجدوا لها أثرا.. أياما قضاها الاثنان بين تعليق وتعذيب وتهذيب في قسم الوايلي.. حتى ظهرت الحقيقة.. بعد أن تحرى ضابط عن أرقام وجدها على الشوال فعرف أنها تخص شركة.. عن طريقها عرف القاتل الحقيقي.. وأفرج عن حسن #*$ الدنيا وسيد سبع الليل.

بعد الغزوة الفاشلة.. وفي سكرتهما بـ”السبرتو الأحمر” لضنك حالتهما.. اقترح حسن #*$ الدنيا على صديقه ورفيق دربه أن يتوبا.. ويبحثا عن عمل شريف.. اعترض صديقه.. أي عمل وأي شريف و هما لا يجيدان من الدنيا إلا أعمال الشقاوة و”الهجم”.. سرح حسن #*$ الدنيا بفكره.. وقال لصاحبه: الوظيفة يا صاحبي.. الميري.. حاول سيد سبع الليل الاعتراض..

اشار له حسن #*$ الدنيا بالصمت قائلا: الحكومة تنظف شارع لطفي السيد.. ذلك يعني أن “عبد الناصر” سيمر.. سنجعل أحد الأفندية يكتب شكوى نطالبه بالوظيفة.. ونعطيها له. امتعض سيد سبع الليل قائلا: وماذا عن الحراسة والجنود الذين سيكونون مثل النمل.. ابتسم حسن #*$ الدنيا وقال لصاحبه.. أتركها على الله ثم عليّ.

قبيل مرور “عبد الناصر” بنحو ساعة.. بعد أن أنهيا الشكوى والمطالبة بالتوظيف والوقوع في “عرض” الرئيس.. توجه حسن #*$ الدنيا وصاحبه إلى “بنزينة” لهما صديق يعمل بها.. طلب منه حسن #*$ الدنيا “جركن” زيت “سكلانص”.. زيت سيارات “وسخ” مخلوط بشحم أنهى مهمته من شحم وتنظيم السيارات.. كل ذلك وصاحبه سيد سبع الليل لا يعلم شيئا.

انتصف الرجلان شارع لطفي السيد.. ووقفا خلف الجنود الذين كانوا يرتدون الزي الأبيض.. وحينما ظهر الرئيس وفي صحبته ضيف عربي.. يستقلان سيارة مفتوحة السقف.. أعطى حسن #*$ صاحبه “الجركن” ورفع يده عليا إلى السماء بالشكوى.. وأمر صاحبه أن يسكب عليه من رأسه حتى قدمه “سكلانص” الزيت “الوسخ” بالشحم.

مع اقتراب الرئيس شق حسن #*$ طريق إليه.. حاول الجنود أن يمنعوه.. بعضهم خشي على ملابسه البيضاء فتركه.. وآخرون حاولوا امساكه لكنه تفلت من أيديهم بفعل “السكلانص”.. صاح الرجل بأعلى صوته: شكوى يا ريس شكوى يا ريس.. مد عبد الناصر يده إليه وأخذ الورقة.

أعقب ذلك إظلام للدنيا اشترك فيه حسن #*$ وسيد سبع الليل.. صادف ذلك اليوم الخميس.. أول وعيهم بالدنيا كان يوم الأحد.. وعلى أجسامهم ووجوههم علامات الضرب المبرح الذين تعرضوا له عقب انصراف الرئيس وفي قسم الوايلي.. تحقيقات استمرت من ضباط القسم الذين تركوا كل ما في أيديهم: من الذي أرسلكما.. ما التنظيم الإرهابي الذي تتبعونه.. هل كنتم تستهدفون اغتيال الرئيس.

تزامن ذلك مع سيارة فاخرة بالنسبة لتلك الأيام الستينية.. اتجهت إلى مدخل عرب المحمدي.. وخرج منها شاب أنيق بطريقة تتشابه مع أفلام سينما الستينات.. يرتدي “بدلة” كاملة.. سأل بابتسامة ود عن منزل حسن عواد وسيد إبراهيم.. لم يعرف الناس من يقصد.. أخبرهما أنه يقصد الرجل الذي قدم شكوى للرئيس في مروره الأخير وصاحبه.. صاح الناس في صوت واحد حسن #*$ الدنيا وسيد سبع الليل.. كاد الرجل الذي عرف نفسه بأنه مندوب من الرئاسة أن يتخلى عن وقاره من كثرة الضحك.. أخبره أهل عرب المحمدي ا بأنهما في قسم “الوايلي” وغير مسموح لأحد برؤيتهما.

اتجه المندوب الرئاسي إلى قسم الوايلي.. سأل عن الرجلين.. حينما شاهد آثار الاستجواب على وجهيهما وجسديهما وعجزهما عن المشي أو الحركة.. عنف كل من في القسم.. وهددهم بالويل والثبور من الرئيس شخصيا وقال: عبد الناصر يقبل شكوتهما ويوظفهما وأنتم تكادون أن تقتلوهما. وجد حسن #*$ وسيد سبع الليل تكريما في قسم الوايلي أكثر من التكريم الذي يحصل عليه الفائز بجائزة نوبل.. حتى أن أعتى المخبرين حملوهما على أكتافهما إلى بيتهما.. وفي عودة المخبرين.. انتظرهما أطفال عرب المحمدي.. هاتفين: من ده بكرة بقرشين.. ذلك الهتاف الذى يقال للجواميس والبقر التي تمر نادرا في عرب المحمدي.. لم أكن شريكا لأطفال عرب المحمدي في زفة المخبرين.. لأنني ولدت بعد ذلك بعشر سنين أو أكثر.

صلُح حال الرجلين.. وتوظفا.. وعاد لـ”حسن #*$ الدنيا” اسم والده.. في المصنع الذي وظفهما فيه الرئيس.. إلا أن الحكاية تسربت لزملائهما.. فعاد صيت #*$ الدنيا إلى حسن.. وسبع الليل إلى سيد.. حتى مدير المصنع كان حريصا على أن يتوجه إليهما أثناء عملهما ليهتف من بعيد باسمائهما.. يا حسن #*$ الدنيا.. يا سيد سبع الليل.. ليعقب ذلك ضحكاته وباقي العاملين في المصنع.

أصبح الرجلين من أصحاب الوظائف الميري.. تركا الشرب والمكيفات.. تزوجا وأنجبا.. صارا من رواد المساجد.. كبر أبنائهما وتعلما.. لم يفارقهم أبنائهما صيت #*$ الدنيا وسبع الليل.. شابا معا كما ترعرعا معا.. وخرجا إلى “المعاش”.. ولقي حسن #*$ الدنيا ربه بعد أن صلح حاله وبقى رفيقه سيد سبع الليل.. الذي اختتم حديثه الماتع معي عن رفيق دربه حسن #*$ الدنيا بعد أن عرف أني من الجيل الأخير الذي ولد في عرب المحمدي.. في حديثه عن رفيق دربه.. وعند الإتيان على ذكر اسمه حسن #*$ الدنيا.. كانت تختلط دمعة تذرفها عينه على ذكرى صاحبه.. بضحكة أجبره عليها اسم صاحبه حسن #*$ الدنيا .