خواطر في حُبِّ الوطن .. فِخَاخُ الوعيِّ بين (الدَكْتَرَةِ) و(التمَشْيُخ)


ياسر عثمان

تكمنُ الأزمةٌ الحقيقيةُ للعقلِ العربيِّ في لحظتهِ الراهنةِ في أنَّه عقل (تَدَكْترَ)، و(تمشْيَخَ) -في كثيرٍ من حالاتِهِ-على غيرِ المنهجِ العلميِّ القائمِ على تعلم المقررات الاستدراكية أو المقررات التمهيدية التي تسبق كلَّ علمٍ يتوخى المرءُ تعلمه (المنهج الذي يعلم المختصرات ثم المتوسطات ثم المطولات، ولا يغفلُ عبرً رحلةِ التعليمِ والتعلمِ عن أهميةِ وضرورةِ تعليم وتعلم العلومِ التي هي من لوازمِ العلوم). ذلك المنهج العلمي المستمَدّ بالاستقراء من منهج الصحابةِ والتابعين الذين كانوا يعلمون النَّاسَ الإيمانَ قبلَ القرآنَ.

لقد كان من نتائج التعلمِ على غير المنهج العلمي المشار إليه فهمُ القرآنِ بغير حيطةِ النبي والصحابةِ لهذا الفهم، والتَّقَوُّلُ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، إمَّا نصًّا بتداولِ الضعيف وغير الصحيح من الأحاديث، وإمَّا دلالةً عبر الفهم القاصرِ لحديثه عليه الصلاة والسلام، وإمَّا نصًّا ودلالةً معاً، فتكوَّنتْ عقولٌ مفخَّخَةٌ في ذاتها مفخِّخَةٌ غيرَها من العقولِ. وإنَّ منِ أخْطَرِ الفخاخِ التي تتربصُ بالوعي الجمعي لأمَّةٍ من الأُمم هو ما يقوم بهِ بعضُ أنصافِ المفكرين - وأدعياءُ العلم فيها ممن أُشيرَ إليهم منذُ كلماتٍ مِمَّن تربَّوا فكرًا ومعرفةً بعيدًا عن المنهجِ العلميِّ في التعليم والتَّعلُّمِ،

ذلك المنهج الذي يقومُ على عدمِ تجاوز المقررات التمهيدية والمقرراتِ الأساس في كلِّ عمليةٍ من عمليات التَّعَلُّمِ أو كسبِ المعرفة إلى المقررات الأعلى)- من نَسْجِ مقولاتٍ فلسفيةٍ مكثفةٍ تتفَلَّتُ من منطقِ العلمِ وإسار المنهج، فيتلقاها العقلُ الجمعيُّ دون تفكيك؛ فتنبني عليها في نهايةِ المطافِ أنساقٌ ثقافيةٌ وفكريةٌ وأيديولوجيةٌ هدامة تَجُرُ الأُمَّةُ إلى غياهبِ التسطيحِ وازدراءِ المنهجِ. وإنَّ أخطر ما في نَسْجِ هذا النوع من المقولاتِ هو أنْ يحتلَّ نسَّاجُوها مركزَ العقل الجمعي للأمَّةِ على حساب النَّصِّ العظيم (الذي تميزت به هذه الأمة دون غيرها) الذي كثيرًا ما يُساءُ فهمُهُ عبر القراءاتِ العرجاءِ من قِبَلِ هؤلاءِ النَّساجينَ الذين يُنْتجون تلك المقولات، فيتحولون بالأمَّةِ من حضارةِ النَّصِّ إلى خواءِ الشَّخص،

إذ يُصبحُ الشخصُ ساعتها بديلاً عن النَّص مثلما هو الحال في فكر سائر التنظيمات المؤدلجة التي أسسَت لها المعرفةُ النثارُ لدى مؤسسيها الذينَ لا يوجد في سيرتهم وآثارهم ما يدلُّ على كونهم تعلموا (فتمشيخوا، أو تدكتوروا) على منهجٍ علميٍّ سليمٍ، بل إنَّهم تعلموا نثارًا من المعرفةِ ظنُّوا أنَّها علمٌ فراحوا ينسجون منها من المقولات الخاطئة ما أصبحَ بعد تداوله لعشراتِ السنين نسقًا يكبلُ الوعي الصحيح بمقاصدِ الدينِ وصحيح المعتقدِ ( في تغييبٍ لنِصْفِ أدلَّةِ الشَّرعِ – حسب وَصْفِ ابن حجر للحديث المذكور-ممثلةً في قول النبي صلى الله عليه وسلم – في رواية مسلم والبخاري-: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منْهُ فهو ردٌّ، وفي روايةٍ لمسلمٍ: من عمِلَ عملاً ليسَ عليهِ أمرُنَا، فهو ردٌ)،

الأمرُ الَّذِي يَفْرِضُ علينا جميعًا أهميةَ إدراكِ الخطِ الفاصلِ بين المعرفة النثار (مهما انتفشت واتسعت)، وبين العلم المستمدِ من روافده التي تنبع من المنهج والبصيرةِ. نعم كم هي ماسَّةٌ ومُلِحَّةٌ لحظةُ إدراك الفارقِ بينهما على طريقة المفكر الفرنسي العبقري بوان كاريه، وذلك كي ندركَ الفارق بين عقلٍ مسلمٍ تكوَّنَ وفقَ منهجٍ، وآخر كونته المعرفةُ النثار التي دانت لصاحبها دون منهجٍ تراتبيٍّ هرميٍّ تمهدُ خلالَهُ كل مرحلةٍ الطريقَ للمرحلةِ التي تليها في التَّعلُّم ِوالتلقي، ساعتها فقط يتجلَّى الفارق العقلين: العقل المــُكَوَّنِ وفق منهجٍ سليمٍ، والعقلِ التنظيمي الحزبي الجماعاتي المـُؤدْلَجِ الذي وقفَ في مهبِّ المعرفةِ النثار فكونتْهُ على غير مرادِ الآية الكريمة:(هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).