آية الله الجافى تكتب: للوجع حسابات أخرى


- (هل جربت ذلك الشعور من قبل؟!
 
- ..... : ؟
 
- أن تسير مرفوع الرأس في نفس المكان الذي خذلك فيه الزمن..
 
أن تضحك مرتديًا نفس الملابس التي غرقت فيها روحك بكاءً.
 
أن تحب الألوان التي شهدت على موقفٍ انفطر فيه قلبك؟).
 
نظرنا جميعًا إلى (حياة) غير مدركين مغزى كلامها؟
 
أكملت (حياة): "لم اعد فى حاجة للتأهيل النفسي.. لقد جئت اليوم كى احكى لكم فقط ".
 
منذ عامين.. عامين فقط كنت أسير فى شارع (7) قرب مكان عملي القديم، أرى الأشجار بألوان الجحيم، والبيوت العتيقة التي عشقتها دومًا كمقابرَ مرعبة، وربما تخيلت السائرين في الشارع كأشباحٍ تعلم ما يجول بخاطري وينظرون لي شامتين.
 
أقف أمام المرآة في انتظار المصعد الذي سيسحبني إلى عالمٍ لا أحبه.. عالم يكسوه الروتين القاتل، أصوات "الكيبورد"، صراخ تعديل الملفات التي لا فائدة منها، ودفتر الحضور والانصراف الذي يشهد على المزيد من الألم.. حتى الضحكات والنزهات مع الأصدقاء كانت مصطنعة بشكلٍ مبالغ فيه.
 
استمرت (حياة) في الحديث: حاولتُ أن أهرب كثيرًا من ذكرياتٍ ترهقني، ولكني لم استطع.. فكرت في الكثير من الحلول.. لم أنجح أيضًا.

فكرت أن اقترب من كل مخاوفي، اقترب من مصدر الألم.. أرى الحقيقة التي غفلتُ... – حسنًا- بل تغافلتُ عنها ..   رأيت مصدر الألم واضحًا دون مؤثرات قلبية، ارتاح عقلي وزاد وقع الألم في القلب.
 
لم يكن من السهل أن ينجح العقل والزمن كليهما في مداواة القلب.. ولكني علمت أنه حتمًا سيحدث، سيحدث.. فقط عندما تقرر أنت.

وخلال العامين لم أخطُ بقدمي ذلك الشارع قط، ولكنني أحببت فى تلك الفترة من كرهتهم دون سبب منطقي، رأيت أن عملي كان عظيمًا، رغم كل الملل الذي كساه، تذكرت ذلك الرجل الذي كان يضحك في وجهي ويخاطبني: كم أنتِ جميلة ومجتهدة!، تذكرت المصحف الأزرق الذي أعطاني لي أحدهم وقت الظلام.
 
سرتُ في نفس الشارع ورأيت الأشجار المنتصبة التي تعلن عن محاربتها لعوامل الطبيعة، والبيوت والمحال العتيقة التي رأيتها بخيال نجيب محفوظ في رواياته، في ذلك الوقت نظرتُ للمرآة رأيت فيها (حياة) التي لم أرها منذ عامين، ودققت النظر في الألوان التي خذلتني سابقًا، ولكنها في تلك المرة كانت ترسم بسمةً كبيرةً على وجهي.
 
تنفست (حياة) وقالت بنبرة عالية: لا أحد يشعر بشيء سواك.. هذا السواد الحالك الذي يغلفك هو في مخيلتك أنت فقط.. وفي الوقت الذي تبكي فيه هناك من يضحك عاليًا، ليس لأن "الحياة" غير عادلة، هو فقط أخذ قسطًا كافيًا من الألم.. ووصل للنضج الذي جعله يضحك رغم كل ما مر به.. لا تحزن ستصل لتلك المرحلةـ ولكن عليك أن تتحلى بالذكاء، ذكاء الإدراك بأن وقت المعاناة انتهى ولا فائدة من المزيد.
 
ولا بد أن أوضح لكم أنه لم يتغير أي شيء سواي، أصبحت روحي أكثر انطلاقًا عندما طردت جزءًا كبيرًا من مخزون الألم الذي أرهقني كثيرًا، لما أصل إلى تمام الانطلاق بعد.. ولكنني سأصل .. 
 
نظرت (حياة) إلى الحاضرين وشعرت بعدم الراحة في عيونهم، مثلما كانت تنظر بعين ساخرة لكل من قال لها سابقًا: هذا الوقت سيمر.. 

قررت أن ترحل وهي تقول لهم: أنا أعلم أن للوجع حسابات أخرى، وسواء رضيتهم أم لا سينتهي، وأنت وحدك من تقرر حالتك وقت زواله.