خواطر في حبِّ الوطن..الخطابُ الدَّعويُّ الحِزبي والحَسَدُ الخفي
وكأنَّه نسي أنَّ مَنِ اختارَ طريقَ الطاعةِ والدعوةِ إلى الله وتعليمِ الناسِ الخيرَ يَلْزَمُهُ من الصبر ثلاثةٌ: صبرٌ عن المعصية، وصبرٌ على الطاعةِ، وصبرٌ على ما يلقاه من أذىً من يقوم بدعوته أو من يتوجه له بخطابه الدعوي، أي كأنَّهُ ليس من الذين خاطبهم الله بقوله: «وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ» (سورة العصر)، فيتَحَركُ-خِلْسةً-الحقدُ والحَسَدُ هذان المضمرانِ في ثنايا خِطابِهِ فيخرجانِ بمقْصدِهِ الدعوي عن هدايةِ الناسِ على منهجٍ قوامُهُ الرحمةُ والرفقُ بأهلِ المعصيةِ والبدعةِ إلى التنكيلِ بهم سُمْعَةً وتشهيرًا وتحقيرًا وازدراءً.
وما كان ذلك التنكيلُ والتحقيرُ والتشهيرُ والازدراءُ إلا حَسَدًا وحِقْدًا خَفِيٍّا على تَنَعُّمِ أهل المعاصي بمعاصيهم وملذاتهم من جهةٍ، وتغييبًا منهجَ النُّبُوُّةِ في الدعوة بالرحمة والحكمة والموعظةِ الحسنةِ التي قوامها الرحمةُ المستمدةِ من النظرةِ التي يجب أن ينظر بها أهل الإصلاح لأصحاب الذنوبِ والمعاصي تلك النظرة التي تقومُ على مرتكزاتٍ عدةٍ جاءت بها الآيات في كتاب الله:"
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ » (آل عمران 159)، و« ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل 125).
فمن هم الظالمون الذين ذكرهم الله في هذه الآية؟ إنهم هؤلاءِ الذين رزقهم الله-عزَّ وجلَّ- فجعلوا من رزقهِ نصيبًا يتقربون به لأصنامهم «وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ ۗ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ» (النحل56)، فصرفوا العبادة لغير الرازق، وكرهوا أن يكون من بين ذريتهم بناتٌ، ولم يكرهوا ذلك في حقِّ الله سبحانه وتعالى، فنسبوا لَهُ ذلك الذي يكرهون من الذرية، إذْ قالوا عن الملائكةِ (العباد المقربين): إنهم بناتُ الله «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ ۙ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ» ( النحل57).
لقد ساءوا حكما مع الله إلى أن وصل بهم الأمر إلى ذلك الذي ذُكِرَ وأكثر، فذكر الله كمال حلمه بهم، بعد ذِكرهِ سبحانَهُ ما وصلوا إليه من التمادي في الظلمِ والإساءة في حقِّهِ سبحانهُ وتعالى. فليتأمل الداعي إلى الله في أي مقامٍ ذكر الله فيه كمال حلمه (ذكره بعدما ساء حُكم الظالمين بِنَسَبِ ما يكرهون إلى الله سبحانه وتعالى) لعله يترفق بمن يدعو من العصاةِ ويقابل إساءَتَهُ بالحلم والرحمةِ، بل لعلَّهُ يتخلَّقُ بما يَجِلُّ ويعْظُمُ من سلوك تجاهَه، فينظر له نظرةً شرعيةً توجب عليه تبليغَهُ-بالحكمةِ-حُكْمَ الله فيما يأتي من المعصية، ويهديه للخيرِ ويزينُ له باب التوبةِ، ونظرةً كونيةً تُثْمِرُ الرحمةَ به، فقد قال تعلى " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ " (التوبة 128)، وذلك لكونِ المعصيةِ قدرَ الله فيه.
، وإنَّ لمن مواقف النبي -صلى الله عليه وسلم- حِيالَ قُساةِ القلوبِ ممن دعاهم -صلى الله عليه وسلم- إلى الهدى ما يجلُّ ويعْظمُ ولا يتَّسِعُ له المقامُ حصرًا، وإنْ اتسعَ مثالاً فاكتفى بهذا الشاهدَ العظيم من سيرته العطرةِ عليه الصلاةُ والسلام، فقد روى الإمامان: البخاري، ومسلم صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّها قالت للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ مِن يوم أُحُدٍ؟ قال: لقد لقيت مِن قومك ما لقيت، وكان أشدُّ ما لقيت منهم: يوم العقبة، إذْ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلَالٍ،
فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلَّا وأنا بقرن الثَّعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلَّم عليَّ، ثمَّ قال: يا محمَّد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخْرِج الله مِن أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا".