آية إبراهيم تكتب: تخاريف السابعة صباحًا


(ثَمة أشياء لا ندرك قيمتها اليوم..لكنها بعد سنوات قليلة قد تكون سبب في ابتسامتنا و في اعترافنا بأنه وبالرغم من كل شيء هناك ما يستحق أن نكون سُعداء)

شتاء ديسمبر2017،، 

كان صباحًا هادئًا استيقظتُ فى الساعة السابعة، كعادتى فتحت شباك غرفتى 

أشم رائحة هواء الشتاء البارد الذي يبعث في نفسي دومًا سعادة وهدوء،

لكن ما شعرت به في ذلك الصباح كان شعورًا غريب  وغير مفهوم..

حالة من الشجن..الصمت..و حنين لوقتٍ ما كان الجو فيه يشبه هذا الجو..

شردت بعيدًا أبحث عن سبب شجنى ذلك..يدى ترتجف من البرودة و نبض قلبي أكاد أسمعه..

ابتسامة هادئة..أوشكت أن أتذكر 

كان هذا الصباح يشبه أصباح  قديمة مرت عليها بضع سنوات،   

لكنها كانت مختلفة كثيرًا.. ربما نفس برودة الهواء..و نفس كوب القهوة الذى اعتدت أن أعده لنفسي في اول كل يوم..لكن وجوه الأشخاص كنتُ أعرفها جيدًا..أحفظ تفاصيلها عن ظهر قلب..كانت أيامى تلك تمتلىء بالحب و الدفء و شعور بالآمان لم اكن أعلم أنه سيأتى وقت أشتاق فيه إلى لحظة واحدة منه..

(مشهد يتجسد في ذاكرتى)
 
يوم دراسي تمر تفاصيله أمام عينى..وأنا  في السنة الثانية من مرحلة الثانوية العامة..

كنت استيقظ في السادسة صباحًا  لأذهب إلى مدرستى 

كانت تلك الأيام تبدأ بصخب اعتدت عليه..يمر صديقاتى علىَّ في السابعة والنصف وكالعادة إحداهن مُتأخرة والباقى يهللن في غضب..ثم تأتى لنا بابتسامة باردة لا نفهم منها ما السبب الذى جعلها تتأخر..كانت صديقتى تلك رغم لامبالاتها التى تثير غضبنا قادرة على قلب الموقف إلى مزحة تعلو بعدها ضحكاتنا.. 

نذهب إلى المحطة ننتظر الأتوبيس ..و عادةً نصل مُتأخرين على الموعد الرسمى لطابور الصباح..

.تتجه كل منا ناحية فصلها بعد سماع الكلمات المعتادة من مشرف الطابور وأحيانًا ناظر المدرسة..

تفاصيل اليوم الدراسي بالكامل أتذكرها جيدًا..صخب المدرسة والصوت الصادر من غرفة الموسيقى..و صوت إحدى مدرساتى تصرخ في محاولة لتهدئة صوت الفصل الملىء بالضوضاء..

كان اليوم الدراسي ينتهى مُحملًا بالكثير من المواقف الطريفة و السخيفة أحيانًا، نلتقى مرة ثانية وقد بدا على ملامحنا ارهاق اليوم، نجتمع عند باب المدرسة..،احدانا تعبر عن جوعها و تسأل ماذا سناكل وأخرى تمسك بمرآة صغيرة مُهندمًة حجابها، واثنتان يتحدثن بصوت خافت..

كانت أيامنا في تلك المرحلة مُتشابهة كثيرا..تتكرر كل يوم بنفس التفاصيل..ذكريات كثيرة أذكرها تفصيلًا وأشتاقها. 

لم تكن تخلو أيامنا من خلافات و مُشادات كثيرة..لكننا كنا قادرين على تخطى هذه الخلافات..لم تخلو  أيضًا من حب مراهق يستنزف مشاعرنا بكامل إرادتنا ظنًا أن تلك المشاعر هى الحب الحقيقي..

ورغم مراهقتنا التى لم نكن ندرك معناها حينها كانت لدينا فلسفة خاصة فى اقناع أنفسنا بما تريده قلوبنا.. 

أمام نافذة غرفتى  مازلت شاردة بذهنى..تتجسد أمام عينى صور و ذكريات من فرط وضوحها كدت أسمع أصوات من كانوا يملأوها 

كدت أٌجن من فرط تذكرى لتلك التفاصيل ومازالت يدى ترتجف من برودة الجو..

كل شيء يومها اجتمع على أن يُذكرنى بتلك الأيام

(برودة الهواء..رائحة الجو..أغنية صادفتنى فى إحدى برامج الراديو الصباحية ..استطاعت موسيقاها أن تلعب بمشاعرى و تنقلنى إلى زمن مضى لكنه ليس ببعيد..)

وأنا مازلت مكانى أتعجب من قدرة تلك الأشياء البسيطة على فعل كل ذلك بي، إنها الذكريات وحدها قادرة على أن تسلب منا ادراكنا للواقع..و تقديرنا للسنوات و التواريخ..

اليوم كل شيء اختلف.. صديقاتى تفرقن وأخذتنا الحياة كلٍ في طريقه بعد أن كان طريقنا واحد أصبحنا نلتقى مصادفة و في المناسبات فقط .. تبدلت وجوه من حولى ..تغيرت الأماكن..و تغيرت أنا..

كل شيء اختلف عدا كوب القهوة المُعتاد و نسمة الهواء الباردة التى حملت معها رائحة أيام كنت فيها مرتاحة البال.. 
 
أما بعد..

فأنا الآن في عامى العشرين و قد تسلل إلىّ شعور بالخوف..

الخوف من كل شيء..(الحب..الفقد..حتى الأحلام أصبحت أخشى  ألا تتحقق فترهقنى).

ربما أن هذه هى علامات النضج الأولى و ربما أنها بقايا فترة مراهقة لازالت تسيطر على عقلى..لا فارق.

و لا أعلم شيء عن كون العشرينات أجمل أيامنا كما يدّعون..وكيف تكون جميلة ويملؤها كل هذا الخوف والقلق الذى لم اعهده من قبل..

لا بأس، فإن هذا الأمر لم يعد مهمًا بالنسبة لى..

أصبحت هناك أولويات أخرى كأن أتوخى الحذر من العابرين في حياتى و من كل ذكرى سوف يتركونها و من أى مشاعر غريبة تزورنى تجاه أحدهم دون مبرر..و لا بأس بقدر كافٍ من صداقات حقيقية تُهدينا إياها الأيام، والتقاط بعض الصور التذكارية التى قد تُيسر علىَّ ساعات من الشرود فى سنوات أخرى قادمة قد أكتب فيها نفس الكلمات عدا تفاصيل بسيطة..

مازلت أنظر من شباك غرفتى و عيونى  لامعة بدموع  تحمل شيء من الامتنان..نفس عميق أخذته ثم عُدت من شرودى.. وجدت الهاتف يرن منذ بضع دقائق دون أن انتبه لصوته..نظرت إلى  الشاشة في عدم تركيز مُحاولة أن أتذكر من صاحبة الإسم الذى يظهر أمامى .. كانت احدى صديقاتى الجُدد  ويبدو أننى كنت تحت تأثير غيمة ذكرياتى..، ابتسمت ساخرة من شدة تأثري و شرودى..ثم عاودت الاتصال بها وأخبرتها أننى سألتقى بها بعد ساعة..أغلقت الهاتف وبدأت أستعد لنزولى لمقابلتها  وأستعد أيضًا لجمع ذكريات جديدة قد تُشعرنى بدفء أيامى تلك بعد سنوات قليلة.