آية الله الجافي تكتب: طيف بلون السما


"ابتسامة على شفتيه".. ما أن وقعت عيناها الصغيرتان على غلاف تلك الرواية حتى سحبتها دون فهم، وظلَّت تجري بها في أرجاء المكتبة وتصرخ بابتسامةٍ عريضةٍ عندما ترى أمها تهرول ورائها في تعابير خجلة من تصرفات ابنتها ذات الأربع سنوات، حتى تمكنت من اللحاق بها وأمسكت بالرواية لتضعها في مكانها المخصص على الرف، ولكن عندما لمحت اسم الرواية ابتسمت ملء روحها، وعادت بالزمن عشرة أعوامًا إلى الوراء، وربما اثنا عشر عامًا، لا تتذكر العام، بقدر ما تذكرت التفاصيل، تفاصيل القاعة المظلمة.

تذكرت "حياة" فستانها بلونه الموف وخطواتها المترددة عند دخولها القاعة المُظلمة التي تملأها الكراسي الحمراء، ويفصلها الصفوف الصغيرة، نظرات عينيها مُعلقة بسقف القاعة المزخرف بالرسومات التي لا تفهم عنها شيئًا، إلا أنها تضيف إلى نفسها الإحساس بجمال ماضي الستينيات الذي لم تعاصره، والأضواء الخافتة التي زادت إحساسها بالشغف نحو المسرح.
ظلَّت تنتظر مسابقة العروض المسرحية وحدها، وهي تنظر للجالسين مُراقبة ضحكاتهم وحديثهم غير المسموع، تشعر بالحب في العيون، والملل في أنفاس الأطفال، وترى الرضا على وجه ملأ الشيب رأسه.

حاولت بكل طاقتها أن تقاطع حديثها الداخلي ورجفة شعورها بالوحدة، ولكن عقلها اللا واعي تدخَّل بالأسئلة والوساوس الكثيرة: "هل تحبين الوحدة؟، إنتي خائفة، الوجوه حولك لا تشبهك تمامًا، لماذا ينظرون هكذا، هل تشعرين بالسعادة؟، منذ متى رُسمت زخارف القاعة؟"، حتى رُفعت الستار وبدأ العرض الأول.

ركزت "حياة" في تفاصيل العروض في محاولة للفهم، إلا أنَّ علامات الاستفهام كانت تزداد كلَّما مر الوقت، أحمرَّ وجهها وشعرت بسخونته تنساب في أرجاء القاعة، مسائلة نفسها: "إيه الغباء ده أنا مش فاهمة حاجة"، شعرت بالرغبة في البكاء، وعقلها الصغير يفكر ويتساءل: ماذا سأضيف إلى مذكراتي اليوم؟ هل سيكون عدم الاستيعاب حديثي في أول حضور للمسرح  في حياتي؟!

مرَّت الساعة والنصف الأولى دون أن تفهم  المغزى من هذه العروض، حتى جاء وقت الاستراحة، وهي متشبثة في كرسيها لا تتحرك، فكرت أن تهاتف صديقتها المُقربة التي اعتذرت عن الحضور معها لظروف خاصة بها، وما إن أمسكت بهاتفها حتى رأت شابًا يقترب منها في ابتسامة ويجلس بجوارها، متسائلًا دون أي مقدمات عن رأيها في العروض، وبالأخص العرض الأخير قبل الاستراحة، فكان ردها هو الصمت التام.

فضحك قائلًا: أنا إبراهيم، كنت بمثل في العرض الأخير اللي اتعرض قبل الاستراحة باسم "حرية"، ها رأيك إيه في العرض؟ 
 
فازدادت صمتًا ثم تنفست قائلة: أسفة معرفتش إنك كنت معاهم.

فازدات ضحكته وقال: أكيد معرفتنيش لإني كنت لابس الماسك الأزرق في العرض؟ وأكيد لما أقلعه مش هتعرفيني لأني  لسة مبقتش مشهور أوي. 

فابتسمت بخجل قائلة: بصراحة أنا مفهمتش أي حاجة من العروض دي.

قال: أنا كمان مكنتش فاهم، لحد ما ممثلت معاهم، بس أنا ممكن أفهمك. 

حاول إبراهيم أن يختصر لها العرض في دقيقتين قبل عودة الهدوء للقاعة واستكمال العروض الأخرى، وقبل أن يذهب طلب منها دعوة من أجل فوز عرضه بأحد المراكز الثلاث الأولى.

اُستكملت باقي العروض في ساعة ونصف، لم تحاول خلالها حياة  التركيز مرةً أخرى، تركت نفسها في عالم آخر حتى جاء وقت إعلان العروض الفائزة، ظلت تراقب إبراهيم مع زملائه فوق المسرح، الخوف والأمل يملأ عينيه، حتى الإعلان عن حصول "حرية" على المركز الثالث.

وسط تصفيق الحاضرين وفرحة الفائزين بالمراكز الأولى وصعود الجمهور المهنئ على المسرح لالتقاط الصور مع فرق العروض الفائزة، التقط إبراهيم وردة باللون الروز من البوكيه الذي حصل عليه مخرج العرض، ونزل إلى القاعة حتى رأى "حياة" واقترب منها في سعادة وأعطى لها الوردة قائلا: 

شكرا لأن وشك كان حلو عليا.

فردت مهنئةً فوزه ومُرددةً أحاديث روتينية بتمني استمرار النجاح والفوز، ولكن بشعور جديد لم يمر على قلبها من قبل.
اختفى إبراهيم بعد أن نادى عليه زملاؤه في الفريق للاحتفال.. وذهبت "حياة" وفي يديها الوردة حتى وصلت إلى المنزل وفتحت كشكول مذكراتها اليومية وحكت قصتها مع القاعة المُظلمة وإبراهيم والوردة، وختمت حديثها بعبارة: 

"أتمنى أن أرى إبراهيم مرةً أخرى، ولكن ربما لن أراه، لا أريد حبًا منه، يكفيني إحساس الرقي الذي امتلأت به  عند حصولي على الوردة ذات اللون الروز، ذلك الرقي الذي يملأ روح المُبدعين، فسلام علي فن لم أكن أعرفه "فن التمثيل الصامت" وسلام على إبراهيم".

أغلقت "حياة" كشكول مذكراتها، فوقعت عيناها على رواية انتهت صباح ذلك اليوم من قراءتها، مُقررةً أن تضعها في المكتبة وبين أوراقها وردة إبراهيم، نظرت للعنوان كثيرًا قبل أن تودعها:  "ابتسامة بين شفتيه- يوسف السباعي".