«المهجرون»


بقلم : محمد كامل

نهاية نهار يوم شتوي.. من بداية عام 1979.. جلسة أمام حارتنا في "عرب المحمدي" مسقط رأسي.. جمعت والدي.. العائد من "السعودية".. وجدتي لأمي.. رحمهما الله.. وأمي.. وخالتي.. بارك الله في أعمارهما وصحتهما. 

كنا ننتصف الجلسة التي كانت على رأس "الحارة" وناصية الشارع ..أنا وأخي الأصغر و"الوحيد" وقتها.. وابنة خالتي.. وأختنا في الرضاعة.. لمح "مصوراتي" الجلسة الودودة.. وشعر بحمميتها.. فتطوع لأخذ صورة مقابل "ربع جنيه" أو "25 صاغ".. كما كان مشهورا وقتها.. عدل أبي الاقتراح لتصوير "العيال".. قالت جدتي مستهجنة: إزاي يا "أبو محمد" هيتصورا بالبيجامات.. ازاحت أمي العقبة متحمسة: هالبسهم البدل اللي أنت جبتهم معاك من "السعودية".. وأنتى يا أم "صبحي" روحي لبسي البنت بسرعة.

راقت الفكرة لخالتي.. فانطلقت مهرورة لتضع الفستان الذي أتى به زوجها "عم صابر" رحمه الله على جسد ابنة خالتي.. ومشطت شعرها وعادت سريعا قبل أن تتم أمي مهمتها معي ومع أخي.

تميز أخي بشعر ناعم كانوا يصفونه بأنه "باروكة" لشدة نعومته.. وكنت على العكس.. شديد خشونة الشعر "هائشه" مرتفعه ولا انخفاض له.. حتى كفت أمي بارك الله في عمرها عن محاولات تسريح شعري.. واكتفت بجلسات "الجاز" النصف شهرية في الشتاء.. والأسبوعية في الصيف.. لتنظيف الشعر وتخليصه من "غزوات" ألمت به.

من يعرفوني في كبري.. لا يصدقون أن "أمشاطا" كانت تُكسر في رأسي حينما كانت "أمي" أو كنت أحاول تمشيط شعري.. وكانت أمي تصف شعري متذمرة ب"الليفة".. وكان أخي وبنات خالتي وأولادها وأصدقائي يرددون حين الحديث عن "الشعر".. محمد أبو شعر ليفة.. لكني لم أحصل على اسم "ليفة".. رغم فلسفة الأماكن الشعبية في الحصول على الأسماء.. لم أحصل قط على اسم غير اسمي.. جزء من الموضوع يرجع لتدين أبي ووالدتي.. فكانوا يرفضون "دلع" لاسم محمد.. لأنه اسم النبي صلى الله عليه وسلم.. وجزء يعود لشخصيتي.. فلم أكن يوما ذلك الطفل اللامع الذي يفرض وجوده بين قرنائه ليستحق لنفسه لقب.. كما استحق غيري.. فحصل أخي الصغير على لقب مؤقت "كركر" لكثرة ضحكه.. وللحق.. كان دائما أشجع مني وأكثر إقداما رغم صغر سنه.. وكان سببا في معظم المعارك التي خضتها مرغما لنصرته.

كحالي الآن.. وأنا طفل كنت غريبا عن طبائع الحي الذي ولدت فيه.. كنت أقرب إلى الهدوء والتفكير والخيال.. تعلمت القرآن في كتاب الشيخ عبد الرحمن رحمه الله.. عقب تهدم منزلنا.. وتعلمت القراءة قبل ولوجي المدرسة الابتدائية.. وكان الفضل في ذلك لأبي رحمه الله.. فكان دائما يشتري لي مجلات "ميكي" و"ميكي جيب" و"سمير" وبعد ذلك مجلة ماجد الإماراتية التي صدرت في عام تلك الصورة.

في ذلك العام.. تسبب سلم بيتنا.. الذي يقع في خلفية الصورة على اليمين.. في وقوعي على وجهي.. وإصابتي بندبة في جبهتي.. مازالت في وجهي.. سببت لي تلك الندبة ألما نفسيا.. كنت أشعر أنني أقل من قرنائي بسببها.. حتى قرأت أن أمير المؤمنين.. خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.. كما علمونا وقتها.. واكتشفت بعد ذلك أنه "سادس" الخلفاء الراشدين.. كان ذا ندبة في جبينه.. فلم يعد الأمر يقلقني.. لأني وجدت شيئا مشتركا مع عظيم لا يختلف عليه أسنان.

عقب ذلك بنحو عام أو يزيد.. هجّرنا "السادات" من بيتنا.. قبل التهجير.. كنا نسمعه يتحدث عن "عشش" عرب المحمدي.. كانت الكلمات تصيب أهلي وسكان الحي المواجه لمستشفى "الدمرداش" بالضيق.. كنت أتعجب.. كيف يصف السادات بيوتنا بالعشش.. بينما أراها قصورا.

كانت بعض البيوت على أطراف الحي.. تستحق لفظ عشش.. وكانت الباقي منازل قديمة.. مثل منزلنا الواضح في خلفية الصورة.. إلا أنها كانت تمثل لنا قيمة كبيرة.. فلم يكن أبواب تغلق.. ندخل حيث رغبنا.. ونأكل من أي وعاء دون ضجر.. كان سكان الحي كلهم.. أهلنا.

جاءت البلدوزرات الضخمة لتهدم بيوتنا.. معظم سكان الحي.. عاشوا في "خيم" الإيواء.. حتى تفرق شملهم بعد توزيعهم على مناطق "الزاوية" و"عين شمس" و"مدينة السلام".. كان من المقرر أن تكون المنطقة فندقا فخما وأبراجا لعلية القوم.. تدخل الأميرة نور الدمرداش رحمها الله تسبب في وقف المخطط ليحل محله حديقة ومكتبة "عرب المحمدي".

رحمة الله بنا.. ثم عمل أبي في السعودية.. لم يجعلنا نقتسم مصير معظم سكان أهل الحي في خيم "الإيواء" فكان اقتراح والدتي الذي وافق عليه أبي شراء قطعة أرض وبنائها.. فكانت الاختيار سببا وقلة المال سببا رئيسا.. لاختيار "الجبل" أو منشية ناصر.. إلى جوار خالاتي الكبار.. فسترنا البيت الذي قضيت جزءا من طفولتي فيه.. باعه أبي رحمه الله بعد ذلك.. كأنه كان سترا من الله فقضى مهمته وانقضى.. وما زال قائما في شارع "وادي الكباري" بالمنشية أو الجبل.

في خدمتي العسكرية.. تعرفت على أحمد إسماعيل.. نجل "العمدة" إسماعيل.. أحد عُمد قرى نصر النوبة تدعى "مص مص" وتعني "طيبة طيبة".. حكى لي بوجهه الأسمر النحيف كباقي جسده.. وبعينين دائمتي اللمعة.. وعرق متصبب.. عن جده الذي ترك مفتاح بيتهم كعادته أسفل السجادة أمام الباب.. أثناء تنفيذ التهجير.. على أمل أن يعود مرة أخرى لبيوت سيغمرها ماء "السد".. وعن جد آخر له.. احتضن نخلته ورفض تركها حتى انتزعه ابنائه بالقوة.. فغرقت بيوتهم.. كان يطلق عليها أرض الذهب.. وكنت أسمي بيوتنا قصورا.. لكنها كانت آراءنا.. التي اختلف مع آراء صانع قرار فأطلق على "أرض الذهب" لقب بيوت من طين.. وأطلق على قصورنا لقب "عشش".

في دراستي الثانوية.. كان مدرس الفلسفة يحاول شرح نظرية تداعي المعاني لفيلسوف عصر النهضة الاسكتلندي ديفيد هيوم.. وطلب مثالا على "تداعي المعاني".. فجاء ردي سريعا: هدم منازل الفلسطينيين وتهجيرهم.. هدم منازلنا في "عرب المحمدي" وتهجيرنا.. هدم منازل النوبة "أرض الذهب" وتهجيرهم.. صمت واندهاش أصاب الصف الدراسي.. وجاء صوته مندهشا وناصحا.. حتى لو عشت مهجرا.. فلا تحيى غريبا.. فكانت نصيحة عجزت عن اقتدائها.