«السبب»


بقلم: محمد كامل

في زيارتي لمدرستي الابتدائية دخلت إلى حجرة «الناظر».. ولما علم أني من الرعيل الأول.. مرر إلى «أجندة» بها شهادة لأحد زملائي.. قال إن ناظر المدرسة الأول احتفظ بها وسلمها لمن يليه طالبا منه أن يسلمها لمن يليه.. أنقلها إليكم كما قرأتها دون إضافة أو تعديل:

ببشرة بيضاء.. و وجه أقرب إلى الاستطالة.. وشعر أسود شبه ناعم.. وضحكة مجلجلة لا تتناسب مع جسده الهزيل.. يزور ذاكرتي طيف "سيد".. بكورتي الحقيقية في الصداقة.. التي اشتعلت سريعا.. وانطفأت في الدنيا سريعا.. إلا أنها ما زالت مستمرة رغم اقتراب العمر من نهايته.

كنا في سنوات دراستنا الأولى في مدرسة حسني مبارك الابتدائية.. التي اكتشفنا بعد مغادرتها إلى المدرسة الإعدادية أن اسمها "الرسمي" عين شمس الابتدائية.

كنا أول صف دراسي تبدأ به المدرسة عملها.. كانت بدايتي في مدرسة 6 أكتوبر الابتدائية الملاصقة.. وقبل أن ينتهي الشهر الأول من بداية السنة الأولى في المدرسة الابتدائية.. جاء ناظر المدرسة بصحبة ناظر المدرسة الجديدة.. همس ناظر 6 أكتوبر في أذن مدرستنا.. فأشارت إلى بعض أطفال.. كنت منهم.

أمرنا ناظر مدرسة 6 أكتوبر بإحضار حقائبنا.. والتوجه إلى فناء المدرسة.. ومنه إلى المدرسة الجديدة.. كان همس ناظر 6 أكتوبر لمدرستنا يتضمن معايير اختيار التلاميذ الذين سيغادرون إلى المدرسة الجديدة.. وكان المعايير أمرا واحدة.. اخرجي الطلبة البُلداء.

نظرات ناظر المدرسة الجديدة أدركت الأمر لكنه لم يعلق.. كنا كأطفال صغار أعطتنا التجربة أشياء مشتركة: إحساس التخلص منا والطرد من مدرستنا.. اشتراكنا في البلادة والغباء.. إجبارنا على مغادرة المدرسة لأخرى دون إذن من أولياء أمورنا أو منا.. كانوا يقررون عنا ولنا. 

لم يجد الأمر معارضة عند أهالينا.. فكانت أقوالهم متشابهة.. كانوا يخاطبوننا بها.. لكن الحقيقة أنهم كانوا يخاطبون أنفسهم ويقنعونها.. كانت ظروف الحياة وصعوبتها.. لا تسمح لهم بالدخول في صدام مع أحد.. لا سيما موظف رسمي حتى لو كان في مدرسة: جميع المدارس مثل بعضها.. مدرسة جديدة بداية جديدة... إلخ.. وكما كنا كأطفال نتشابه في مصير فرضته تجربة.. كان أهالينا يشتركون في صفات الشقاء والكفاح و"الغُلب".

بعد ذلك بست سنوات.. وقبيل رحيلنا إلى المدرسة الإعدادية.. استطاع فريق مدرسة حسني مبارك أو "عين شمس" فيما بعد.. أن تفوز بالمركز الأول في مسابقة أوائل التلاميذ في منطقة شرق القاهرة.. كنت عضوا أساسيا في ذلك الفريق.. وكان فريق مدرسة 6 أكتوبر التي طُردنا منها من أول الفرق التي التقيناها وسحقناها.. في ذلك اليوم.. رأيت الفرح على وجه ناطر المدرسة.. وكأن عمره عاد 6 سنوات.. توجه إلى ناظر مدرسة 6 أكتوبر التي طردنا منها ومسك يده ضاحكا.. وهمس في أذنه بكلمات لم اسمعها.. علمت بها بعد ذلك بعشرين عاما: لا يوجد تلميذ بليد.. ولكن يوجد أستاذ فاشل.

وعلى وجه أبلة زينب الأسمر.. التي تبنتنا في سنينا الأولى بعد طردنا من مدرسة 6 أكتوبر.. فرحة جني ثمار تعبها.. كان يوم من أسعد أيامنا.

في بداية أيامي اختارني "سيد" خليلا.. فلم أكن لأختار.. في تلك المرحلة في حياتي كانت الصفة الغالبة "الانكماش".. من كل شيء.. مشاهدة لعب الأطفال وعدم مشاركتهم.. خوف دائم من كل أمر.. حتى أن أخي الأصغر كان يتنمر علي.. وكنت أخشاه.. خوف حتى من الحديث أو الإجابة على سؤال خشية "التهتهة".. خشية السخرية من الأهل.. خشية النقد.. كانت خشيات وليسه خشية واحدة.

كانت شقة سيد في الدور الخامس المواجه لنا وكنا في الدور الثاني.. كان "سيد" أصدق مثال لكلمة "عفريت".. كان شجاعا مقداما مغوارا.. وهي صفات لم تكن متوفرة في شخصي وقتها.. لا أعلم لماذا اختار "سيد" شخصي المتمثل في كتلة من الجلد الملتصق بالعظم ولا يزيد وزنها عن 30 كيلوجرام يعلوها رأس أسمر كبير وشعر خشن أكرت يضاهي شعر لاعب الكرة "فلفل" في خشونته.. حينما يزورني طيفه يعاد السؤال ولا تأتي الإجابة.. لم تأتيني الشجاعة وقتها لسؤاله.. ولم يسمح لي الزمن بعد ذلك بسؤاله.

اختارني "سيد" الذي يحرص على صداقته جميع أطفال المدرسة – كانت المدرسة وقتها تقتصر على صف دراسي واحد هو أولى ابتدائي–.. لم تكن جيرتنا السبب في ذلك.. ففي الفصل والمدرسة من هم أقرب إليه مني من حيث الجيرة.. على يديه بدأت أول مغامراتي.. السبب غادر معه حينما غادر.

ركوب العجل الذي كنت أخشاه علمنيه "سيد".. بدأ معي بالعجلة ذات "الثلاث" عجلات.. ثم علمني ركوب "العجلة" ذات "العجلتين" الأمامية والخلفية.

علمني "سيد" الانتقال من دور الضحية إلى دور رد المعتدي.. وعلمني صيد العصافير ووضع الفخ الحديدي وتجهيزه بالدود ودفنه في الرمال فلا يظهر منه إلا الطعم الدودي.. علمني استعمال "النبلة".. وكانت لنا غزوات لجمع البلح من على أعلى النخيل من منطقة كفر الشرفا التي كانت وقتها منطقة زراعية بها ترعتين كنا نعوم فيهما.. علمني صناعة الطائرات الورقية.. والارتفاع بها إلى السماء كأننا على أجنحتها نطير.

أدين لـ"سيد" باكتشاف العالم.. والأهم اكتشاف نفسي.. كان سببا في تحويلي من كائن منكمش إلى كائن اجتماعي.. فكانت جلساتنا للمذاكرة في منزله ومنزلنا.. وكانت مغامراته.

في آخر أعوامي الدراسية في الجامعة.. بعد دخولي منزلي.. نادت علي والدتي: تعالا سلم على خالتك أم سيد.. لمحتها بوجهها الشبيه بفقيدها.. اقتربت مني سريعا وضعتني في حضنها باكية وقالت بصوت مبحوح: الله يرحمك يا "سيد".. لو كان عايش كان في مثل عمرك وطولك.. الله يرحمه.. كان يحبك.. وأنا أحبك كأنك هو.

في الاجازة الصيفية للعام الثالث الابتدائي.. توجه "سيد" لمساعدة والده على مشاق الحياة.. على رغم صغر سنه كان رجلا.. وعمل في ورشة إصلاح سيارات في منطقته الأولى "بولاق أبو العلا" التي ارتحل منها أهله إلى مساكن عين شمس.. طلب منه الأسطى أن يشتري شيئا.. أثناء جريه.. صدمته سيارة.. زحفت به حتى مقدمة سيارة أخرى.. وكان هو في المنتصف يلفظ أنفاسه.. ويغادر دون أن يقول لماذا اختارني.. رحم الله "سيد".