ثروات مصر المجهولة


فاروق جويدة

لابد أن نعترف بأن هناك إنجازات كبيرة شهدها المواطن المصرى وشعر بأهميتها وضرورتها وكيف أثرت فى حياته..هذه الإنجازات الملموسة والواضحة تؤكد أن الإنجاز ممكن وان النجاح ليس شيئا مستحيلا وان فى استطاعة المصريين ان يغيروا صورة حياتهم وواقعهم الاجتماعى والحضارى وان ينطلقوا نحو مستقبل أفضل..لا أحد ينكر الطفرة التى حدثت فى قطاعات مهمة مثل الكهرباء رغم ما ترتب على ذلك من أعباء مالية على المواطن المصرى إلا أن مواجهة هذه الأزمة كان يحتاج إلى فكر وإصرار وإرادة ولهذا لم يكن غريبا أن تخصص الدولة عشرات المليارات لإنشاء محطات جديدة للكهرباء والوصول بإنتاجها إلى ما يغطى احتياجات مائة مليون مصرى.. 
لا نستطيع أن نتجاهل ما حدث فى الطرق وكانت قد وصلت إلى حالة من التهالك لا تتناسب مع العصر الذى نعيش فيه وامتدت الطرق آلاف الكيلو مترات فى صورة طرق جديدة وإنقاذ طرق قديمة وشعر المواطن المصرى بكل هذه التغيرات التى انعكست على حياته..
فى هذا الإطار كانت إنجازات المدن الجديدة ومئات المواقع التى تم إنشاؤها لمواجهة الأزمة السكانية وسكان العشوائيات وتوفير السكن المناسب للإنسان المصرى فى ظل أزمة خانقة امتدت سنوات طويلة..هذه المنشآت غيرت صورة المجتمع المصرى وانتقلت بملايين البشر الى حياة أكثر إنسانية..فى تقديرى أن ثلاثية الكهرباء والطرق والإسكان هى أفضل وأهم إنجازات الحكومة الحالية ورئيسها المهندس شريف إسماعيل..
وهنا لابد أن نعترف بأن هناك مجالات أخرى لم تكن على نفس الدرجة من الإنجاز والنتائج وشعور المواطن بها أهمها مايلى..
لا أتصور أن يبقى حال الزراعة المصرية بهذه الصورة المتخلفة سواء فى حجم الإنجازات أو النتائج أو استخدام الأساليب الحديثة فى كل شىء إبتداء بالرى والمياه وانتهاء بأساليب الحصاد والبذور وحجم الإنتاج والمبيدات المسرطنة..منذ سنوات بعيدة أهملت كل النظم الحاكمة قضية الزراعة فى مصر وهى صاحبة الأولوية فى سجل قدرات الاقتصاد المصرى ولنا أن نراجع محاصيل الزراعة المصرية وما أصابها حين انخفضت مساحة القطن من أكثر من مليونى فدان إلى 300 ألف فدان وبعد أن كان موسم جنى القطن بعد عرس للفلاح المصرى تحول إلى جنازة وأكياس القطن الأحمر والأخضر تنام فى الحقول لا يشتريها أحد حتى الحكومة نفسها..وفقد القطن المصرى أسواقه الشهيرة وبدأنا نستورد القطن من الهند وإسرائيل ..
كانت خطيئة القطن واحدة من اكبر الجرائم فى تاريخ الزراعة المصرية وبعد ذلك حدثت كوارث أخرى فى محاصيل مثل البصل والثوم والفول والخضراوات واكتفينا بزراعة الكانتلوب والفراولة عن أى محاصيل أخرى حتى إننا الآن نستورد الثوم الصينى..فى تقديرى أن الزراعة المصرية تحتاج إلى انتفاضة فى الأشخاص والإنتاج والأنواع والدراسات وأننا فى حاجة إلى أساليب حديثة تعيد للزراعة المصرية تاجها القديم..إن استصلاح مليون ونصف مليون فدان وهو مشروع الدولة الحالى لا يغنى ابدا عن إصلاح أحوال الزراعة المصرية بما فى ذلك الاهتمام بالفلاح واستخدام أساليب حديثة ومقاومة العدوان الصارخ على المساحات الخضراء التى تحولت إلى مبان وعقارات وخسرت مصر فيها ملايين الأفدنة.
أتابع من بعيد أحوال الصناعة المصرية ولا استطيع أن القي مسئولية ما أصابها على حكومة حالية أو حكومة سابقة لأن الإهمال كان مرضا خطيرا دمر فى سنوات كل إمكانات الصناعة المصرية والدليل ما أصاب الصناعات التقليدية مثل الغزل والنسيج وما حدث فى برنامج الخصخصة وبيع القطاع العام بأبخس الأثمان فى صفقات مشبوهة بدأت بصناعة الأسمنت والحديد وانتهت ببيع مشروعات كبرى وتحويلها إلى أراضى بناء كما حدث للمحالج وتوابعها..تعرضت الصناعة المصرية إلى عمليات تدمير كامل والغريب أن العالم الخارجى فى كل علاقاته معنا لم يكن حريصا على تطوير الصناعة المصرية وترك الاقتصاد المصرى لأعمال السمسرة والوكالة والبيع والخصخصة وسيطرت تجارة الأراضى والمقاولات على كل شىء وخسرت مصر صناعات تقليدية عريقة وأصبح الاستيراد عبئا ثقيلا على ميزانية الدولة..
فى الأسابيع الماضية تلقيت عشرات الرسائل والاتصالات من رجال الأعمال أصحاب المصانع المغلقة وللأمانة فإن الرئيس عبد الفتاح السيسى طلب من الحكومة أكثر من مرة مواجهة هذه الأزمة وتوفير كل ما يساعد أصحاب هذه المصانع على إعادة فتحها وعودتها للإنتاج, خاصة أن فيها آلاف العمال الذين تركوا أعمالهم..لا يعقل أن يبقى هذا العدد من المصانع المغلقة التى أكلها الصدأ..وإذا كانت الزراعة المصرية تعيش محنة طويلة فإن الصناعة المصرية تعانى من نفس المصير..لا أحد يدرى مصير عشرات الاتفاقيات الصناعية التى وقعتها مصر والناس تتساءل: أين الإنتاج الصناعى المصرى وكل ما فى الأسواق سلع مستوردة من دول عربية شقيقة ودول أوروبية؟!.
كان من الخطأ أن نتصور أن مثلث السياحة فى مصر هو الأقصر وشرم الشيخ والغردقة وان يذهب السياح إلى هذه الأماكن الثلاثة دون أن يزوروا معالم مصر وكانت سياسة الدولة فى سنوات مضت أن هذه المواقع الثلاث تكفى أولا لراحة المسئولين وتوفير النفقات الدولارية السريعة دون مراعاة أن السياحة يمكن أن تكون من أهم موارد مصر..أين بقية الشواطئ؟! أين سياحة الصحراء؟!..أين القاهرة وتراثها؟! وأين الإسكندرية أشهر مدن البحر المتوسط على الإطلاق وأين 6 ملايين قطعة أثرية هى ثلث آثار العالم؟!.. قلت انه خطأ تاريخى أن نختصر سياحة مصر فى 3 مواقع حتى إننا تركنا سيناء كاملة للإرهاب واكتفينا بمنتجع صغير يسمى شرم الشيخ وآخر يسمى الغردقة رغم أن مصر كلها تصلح لأن تكون مصادر دخل غير محدود للسياحة..مازلت أعتقد أن السياحة أكبر بكثير من كل ما نراه ونرصده الآن..إنها قضية فكر ورؤى مازالت حبيسة المكاتب.
كثيرا ما نشرت الصحف جرائم التنقيب عن الذهب فى جبال البحر الأحمر وهناك اكتشاف كبير يسمى منجم السكرى وفى مناطق أخرى يقوم المواطنون باكتشاف حقول الذهب من وراء ظهر الحكومة وهذا يعنى أن مصر مصدر مهم من مصادر الذهب فى العالم والدليل على ذلك كميات الذهب التى أقام بها قدماء المصريين قبورهم وقصورهم..والسؤال هنا: ما هى الجهة الحكومية فى مصر المسئولة عن التنقيب عن المعادن الثمينة؟ وهل لدينا جهة تقوم بهذه المهمة؟.. وماذا عن حقول الفوسفات والحديد والرمال البيضاء؟ ولماذا لا تكون لدينا وزارة أو شركة كبرى لتقوم بهذا الدور وتتحمل هذه المسئولية لأنه لا يعقل أن نترك مناجم الذهب للعصابات وقطاع الطرق فى أرجاء المحروسة.
شهدت مصر فى السنوات الأخيرة قفزة كبيرة فى إنشاء المزارع السمكية فى أكثر من مكان فى كفر الشيخ والسويس وبورسعيد ولاشك أنها تمثل زيادة حقيقية فى إنتاج مصر من الأسماك ولكن على الجانب الآخر هناك شواطئ مصر التى تمتد آلاف الكيلو مترات وفيها ثروات هائلة كان آخرها بفضل الله اكتشاف الغاز فى مياهنا الإقليمية فى البحر المتوسط وتبقى الشواطئ المصرية بما فيها من الأسرار والموارد منجما لخيرات كثيرة, كما أن صيد الأسماك كان من أهم مصادر العمل والإنتاج فى مناطق كثيرة..وعلى الجانب الآخر من الصورة تظل بحيرة ناصر بكل ما فيها من الموارد إبتداء بالأسماك والتماسيح والطمى قضايا إنتاج على درجة كبيرة من الأهمية..إن التماسيح فى بحيرة ناصر وقد تجاوز عددها 80 ألف تمساح تمثل ثروة, كما أن الطمى الذى ترسب فى عشرات السنين يمثل ثروة أخرى ولا يعقل أن نترك مثل هذه البحيرة وهذه الكتلة المائية الضخمة لعدد من تجار الأسماك ينهبون خيراتها ولا يستفيد المواطن منها فى شىء..
سوف أتوقف عند قضية على درجة كبيرة من الحساسية وهناك من يخاف دائما من الاقتراب منها وكأنها سر الأسرار وهى قضية الديون..كلنا يعلم أن ديون مصر قد وصلت إلى درجة من درجات الخطورة ورغم الجهود التى بذلتها الوزارات المختصة المالية والاستثمار بدعم من البنك المركزى فإن الأمانة تقتضى متابعة مسيرة هذه الديون فى ثلاثة جوانب هى حجم مشاركتها فى مشروعات التنمية..أن تتحول إلى إنتاج حقيقى, أن تراعى فيها حدود خدمة الدين ممثلا فى الفوائد وعلى بنوك مصر أن تكون ناصحا أمينا فى كل ما يتعلق بالديون من خلال رقابة حقيقية على حركة هذه الديون وتصاعدها..إن الديون كانت وراء تعديلات جوهرية فى مسيرة الاقتصاد المصرى وكانت وراء الخروج من أزمات مالية حادة ولكنها مثل الرجل المريض تحتاج إلى متابعة دائمة..
تحدث الرئيس عبد الفتاح السيسى أخيرا عن ضرورة تنمية القدرات البشرية للعمالة المصرية وهى الأساس فى كل إنتاج بشرى..ولاشك أن لدينا قدرات مميزة وفريدة فى هذه القدرات ولكنها لا تستطيع أن تنافس دولا مثل الصين أو كوريا أو الهند والمطلوب الآن أن تتطور نوعية هذه العمالة من حيث مستوى الخبرة والتدريب واستخدام التكنولوجيا الحديثة فى الزراعة والصناعة والبناء..إن أمام العمالة المصرية الآن فرصة كبيرة فى مجالات متعددة فى الدول العربية التى دمرتها الحروب وهذه الدول لن تأمن لأى أطراف دولية أن تشارك فى إعادة إعمارها ولكن على العمالة المصرية أن تصل إلى درجة من الكفاءة والتميز بحيث تكون قادرة على المنافسة وتقديم ما هو أفضل من الخبرات, لقد طلبت الدول العربية دعم مصر فى إعادة إعمارها ومنها ليبيا والعراق وفى يوم من الأيام كان فى العراق 4 ملايين مواطن مصرى وفى ليبيا 3 ملايين وهذا يعنى أن أمام العمالة المصرية فرصا نادرة فى هذه الدول الشقيقة..
هذه بعض الاجتهادات التى رأيت فيها أحلاما نحو بناء حياة أفضل ونحن نستقبل مرحلة جديدة مع رئيس مصر عبد الفتاح السيسى والخلاصة أن الشكر عميق لكل من أنجز وقدم وأخلص وان الضرورات أحيانا تتطلب أساليب جديدة فى العمل والخبرات والكفاءات وان المجتمعات الحية قادرة دائما على أن تغير دماءها وليس من الخطأ ابدا أن نطالب بوجوه جديدة لأننا جميعا جنود فى شعب مصر العظيم الذى يسعى إلى تقديم نموذج جديد فى البناء..التغيير ضرورة تفرضها الظروف والمراحل والمسئولية الوطنية.

..ويبقى الشعر
يا عَاشقَ الصُّبح وجهُ الشَّمْس ينشطِرُ
وأنجُمُ العُمْر خلفَ الأفق تنتحِرُ
نهفُو إلى الحُلم يَحْبُو فى جَوانِحِنا
حَتَّى إذا شبَّ يكْبُو..ثم يندثرُ
يَنْسابُ فى العَيْن ضوءًا..ثم نلمحُهُ
نهرا من النار فى الأعماق يستعرُ
عمرٌ من الحُزْن قدْ ضَاعتْ ملامحهُ
وشرَّدتْهُ المنى واليأسُ..والضَّجرُ
مَازلت أمْضِى وسرْبُ العُمْر يتبعُنى
وكلَّما اشْتدَّ حلمٌ..عَادَ ينكسرُ
فى الحُلم مَوتى..مَعَ الجلادِ مقصَلتِى
وَبينَ مَوْتى وحُلمى..ينْزفُ العمُرُ
إن يَحْكم الجهلُ أرضًا كيفَ ينقذهَا
خيط من النُّور وسْط الليل ينحسرُ؟
لن يَطلعَ الفجرُ يومًا من حناجرنَا
ولن يصونَ الحمى منْ بالحمَى غدرُوا
لن يكْسرَ القيدَ مَنْ لانتْ عزائمُهُ
ولنْ ينالَ العُلا..مَنْ شلهُ الحذرُ
***
ذئبٌ قبيحٌ يُصلِّى فى مَسَاجدنَا
وفوْق أقْدَاسِنَا يزهُو..ويفتخِرُ
قدْ كانَ يَمْشى على الأشْلاءِ مُنتشيًا
وَحَوْله عُصْبة ُ الجُرذان تأتمرُ
من أينَ تأتى لوجهِ القُبْح مكْرمة ٌ
وأنهرُ الملح هل يَنْمو بها الشَّجَرُ؟
القاتلُ الوغْدُ لا تحميهِ مسْبَحة
حتى إذا قامَ وسْط البيتِ يعتمرُ
كمْ جاءَ يسْعَى وفى كفيه مقصلة ُ
وخنْجَرُ الغدر فى جنبيهِ يستترُ
فى صفقةِ العمْر جلادٌ وسيِّدُهُ
وأمَّة فى مزادِ المْوتِ تنتحِرُ
يَعْقوبُ لا تبتئسْ..فالذئْبُ نعْرفُه
منْ دمِّ يوسُف كل الأهْل قدْ سكرُوا
أسماءُ تبْكى أمامَ البيتِ فى ألم ٍ
وابنُ الزُّبير على الأعْناق ِ يحتضرُ
أكادُ ألمحُ خلفَ الغيْبِ كارثة ً
وبحرَ دَمِّ على الأشلاءِ يَنْهَمرُ
يومًا سيحْكى هنا عَنْ أمَّة هلكتْ
لم يبْق من أرْضِها زرعٌ..ولا ثمرُ
حقتْ عليْهم مِنَ الرَّحْمن لعنتُهُ
فعِنْدَما زادَهم من فضْلِه..فجَرُوا
يا فارسَ الشِّعر قل للشِّعر معذرة ً
لنْ يسْمَعَ الشِّعرَ منْ بالوحْى قدْ كفرًوا
واكتبْ على القبْر : هذى أمَّة رَحَلتْ
لم يبق من أهْلها ذكرٌ..ولا أثرُ
***

قصيدة كانت لنا أوطان سنة 1997

نقلا عن جريدة الأهرام