الطعام الفاسد.. والرقابة غائبة!!


بسيوني الحلواني 

تجمع عدد من المارة وأنا معهم لفض مشاجرة حامية الوطيس في شارع الهرم بين بائع أسماك شاب ورجل مسن لمنع إراقة الدماء بعد أن استمعنا الي ألفاظ نابية وأخري قبيحة من طرفي المشاجرة دون أن نقف علي الأسباب. 
بعد أن تمكنا من فض الاشتباك بين الطرفين.. سألت الرجل المسن عن السبب الذي دفعه الي التشاجر مع بائع الجمبري والكابوريا والدنيس والأصناف الراقية من الأسماك والتي يعرضها علي الرصيف.
قال: كل الأسماك التي يعرضها هذا (.....) فاسدة وقاتلة وكاد يقتلني أنا وأسرتي بسبب كيلو جمبري فاسد أخذته منه منذ يومين وأصبنا بحالة تسمم وذهبنا جميعا الي المستشفي وكنا علي وشك الموت.
سألته: كم دفعت في كيلو الجمبري؟
قال: دفعت له 50 جنيها وكان يريد 100 جنيه.. وصرفنا 400 جنيه علي الأطباء والأدوية بسبب هذا الجمبري الفاسد.. والحمد لله الذي نجانا من الهلاك!!
سألته: ولماذا لم تذهب الي قسم الشرطة لتحرير محضر بما حدث لك ولأسرتك أو تبلغ جهاز حماية المستهلك؟
رد علي متهكما: وهي فين حماية المستهلك دي يا بيه.. إحنا بنسمع عنها في التليفزيون فقط.. والشرطة فاضية لواحد يبيع سمك فاسد في الشارع؟
سألته: وماذا يفيد التشاجر معه؟
قال: يكفي أن أفضحه وأحذر الناس منه مادمنا نعيش في بلد لا توجد فيه رقابة علي ما نأكله ونشربه.. والأكل الفاسد يطاردنا في كل مكان.
*******
بعيدا عن هذه الواقعة والتي تكشف عن واقع مؤلم نعيشه فعلا في مصر.. العبارة الأخيرة من كلام هذا الرجل البسيط صحيحة الي حد كبير.. الطعام الفاسد يطاردنا في كل مكان.. والرقابة غائبة. والأدلة علي ذلك كثيرة ومتنوعة وأصبح المطلوب من كل مواطن أن يستفتي قلبه قبل أن يدخل مطعما ليأكل أو قبل أن يقف أمام بائع في الشارع ليشتري طعاما لأسرته.
لقد حذر الأطباء من الزيوت القاتلة التي تستخدمها مطاعم الفول والطعمية المنتشرة في مصر من أقصاها الي أقصاها وتعمل ليل نهار بعيدا عن الرقابة ويخرج أصحابها ألسنتهم للجميع.. وحذر الأطباء أيضا من المبيدات القاتلة التي ترش بها الخضروات والفواكه لحمايتها من الحشرات ولسرعة نضوجها. وخبراء التغذية يؤكدون أن الغالبية العظمي من الخضروات والفواكه تحمل نسبا عالية من هذه المبيدات ولم يعد يفيد غسلها بالماء أو الخل كما ينصح البعض. ولم تعد المبيدات الحشرية والأسمدة الكيماوية هما مصدر تلوث الخضروات والفواكه. بل أصبح الماء الذي تسقي به هذه المنتجات الغذائية ملوثا بفعل ما يحدث في معظم الترع والمجاري المائية التي تلقي بها معظم العناصر الضارة!!
*****
ملف تلوث الغذاء في مصر يجب أن يظل مفتوحا طوال الوقت في ظل تحذيرات الأطباء وخبراء التغذية من طوفان الطعام الملوث والفاسد الذي يحيط بنا من كل جانب.. وحماية ما تبقي لدي المصريين من صحة لم يعد ترفا. بل أصبح ضرورة وطنية لتحقيق استقرار الدولة المصرية. فما ينفق علي العلاج سنويا يؤكد أن الأخطار التي تهدد حياتنا في تزايد مستمر وأغلب المسببات- كما يقول الأطباء- تأتي مما نأكله ونشربه. والبيئة الملوثة التي تحيط بنا.. والي جانب المليارات التي تنفق علي العلاج ويذهب جزء كبير منها الي علاج الأورام التي عرفت طريقها الي أجساد نسبة غير قليلة من المصريين وتتزايد يوما بعد يوم.. فالجسد المريض لن يعمل ولن ينتج ولذلك فإن خسائرنا من تلوث الطعام والشراب فادحة ويجب أن تكون علي مائدة من يخططون لمستقبل هذا الوطن.
إن دور الدولة في الرقابة علي المطاعم ومحلات وأكشاك وعربات الطعام الجاهز المنتشرة في كل مكان لا تقل أهمية عن رقابة الدولة علي تجار المخدرات. فالطعام الفاسد يهدد حياة المصريين أكثر من المخدرات.
مثلا.. لقد أجمع الأطباء وخبراء الصحة العامة أن "زيت الطعمية" الذي تستخدمه المطاعم سبب رئيسي للسرطان. ومع ذلك لم نسمع أو نقرأ عن إغلاق مطعم واحد من عشرات الآلاف من المطاعم المنتشرة في كل محافظات مصر والتي تستخدم زيوتا قاتلة ومدمرة للصحة.
منذ عقود كان لوزارة الصحة موظفون يحملون لقب"مفتش صحة" وكان هذا المفتش يمر علي المطاعم ومحلات الجزارة وغيرها ليفحص ما يباع للموطنين وما يشك فيه يأخذ منه عينة لفحصها ويمنع بيعه حتي تنتهي نتيجة الفحص. وللأسف.. الآن نصول ونجول في الأسواق ولم نسمع عن وجود مفتش صحة كالذي كنا نراه منذ نصف قرن. مع أن الزمن غير الزمن والحياة تطورت والإمكانات تضاعفت.. والفاسدون ومعدومو الضمير الآن أضعاف أضعاف ما كانوا في الماضي!!
******
لقد أنشأت الدولة جهازا يطلق عليه جهاز سلامة الغذاء يتبع مجلس الوزراء مباشرة ولا ندري هل يعمل هذا الجهاز الآن أم أنه مجرد حبر علي ورق مثل كثير من الهيئات والمؤسسات التي أنشأت ولا يشعر بها أحد.
ويبقي السؤال المهم: هل يمكن تطوير أداء جهاز حماية المستهلك ويكون له دور رقابي علي الأسواق.. بمعني أن يضم عددا مناسبا من الموظفين وخبراء التغذية يتمتعون بالضبطية القضائية ليطهروا أسواقنا من هؤلاء الذين يبيعون للناس السموم في شكل طعام وشراب.
الأسواق المصرية والشوارع تمتليء بكل الأطعمة الفاسدة.. فمن يحمي الكادحين والمطحونين من تجار الموت؟ 

نشر في جريدة الجمهورية