«الطلعة»


بقلم: محمد كامل

أكرم الله صديقي بشراء شقة في أحد شوارع عين شمس الرئيسية القريبة من "المساكن".. زرته لأبارك له.. أخرج مجموعة كتب قال إن من اشترى منه الشقة تركوها داخل "كرتونة".. وقعت عيني على "أجندة" بها مذكرات.. اتحفظ عن ذكر اسم صاحبها وأعرضها كما وجدتها دون تصرف.

في بدايات عامي العشرين.. إذ الأفعال تسبق الأفكار.. والقرارات تسبق تدافع الدم في الشرايين.. كنا لا نملك شيئًا.. وكان في اعتقادنا أننا سنملك كل شيء.. لأننا كنا في سن "كل شيء ممكن.. في جلستنا قرناء في السن والحماس والأحلام.. انضم إلينا أحدنا.. قطع أحاديثنا قائلًا: عندنا طلعة في شارع الأصبغ -شن هجمة على شارع الأصبغ بالزيتون- .. في ذلك الوقت كان ذلك الشارع الزيتوني شهير بأنه شارع "الحِمل" بكسر الحاء.. مفرد حملة "تقال" على الشاب الذي يقدر على كل شيء.. وعلى الجميع خشيته.

كان السبب مشاجرة بين عمته قاطنة الشارع.. وجار لها.. لم نكن نحتاج لأسباب لطلوع تلك الطلعات بلغة ذلك الوقت.. قررنا جمع "العدة" –كل ما تيسر من سلاح-، قبيل الانطلاق استوقفني أحدنا –في ذمة الله فلم يكمل عامه الثلاثين حتى اختاره الله لرفقته رحمه الله- قال بحذر ودهاء مشهور عنه: هنخش الأصبغ بالعدة اللي معنا بس.. ده شارع الحِمل.. أجبته ما الحل؟، قال إن الحل عنده وسحبني من يده.

لأكثر من نصف ساعة عمل صديقي الراحل بجد في تفريغ عبوات "البمب" التي اشترى منها كميات كبيرة.. في أوعية زجاجية "برطمانات" تزيد عن العشرين..خالطًا المادة الصفراء في البمب بمسامير.. حتى كون أكثر من عشرين عبوة تنفعنا في الدخول والخروج وتكون دعم لنا حسب وصفه.

حمل صديقي "العبوات".. بعضنا كان من نصيبه "سيف" أو "سنجة" أثقل من السيف وأكثر بدائية"، أو "سافورية" أصغر من السيف والسنجة وأقرب في حدتها للسيف.. أو "حتة تلت".. أصغر من "السافورية" ويقترب طولها من ثلث متر لذلك سُميت بـ"التلت".. وكان نصيبي "مقروطة بروحين".. –فرد يطلق الخرطوش".

كانت خطتنا بسيطة.. الدخول جماعة إلى الشارع بشكل فجائي.. والتزيط على كل الشارع بكل ما فيه "سب الشارع وسكانه بألفاظ نابية".. ثم فتح الجماعة الطريق أمامي لضرب الشارع ومن فيه ومن تجمع بالمقروطة بطلقات الخرطوش التي تفرش  -يتسع مداها وينتشر مكوناتها من البلي ليصيب الجميع".. وبعد ضرب "الخرطوش" هجوم جماعي على من في الشارع من ضحايا أو سلماء بالسيوف والسنج والسافوريات والتلت.. وإطلاق صديقي الداهية العبوات التي جهزها لتكون غطاء لنا للإنسحاب.. خطة بسيطة ومتكررة وفاعلة أضاف إليها صديقي فكرة العبوات.

بدأت الخطة الهجومية أو "الطلعة" على شارع الأصبغ.. وبدأ المجموع في "التزييط".. وجاء دوري بإطلاق الخرطوشمن المقروطة.. إلا أن المقروطة "جلت" أي لم تطلق الخرطوش لأي سبب "لا سيما وأنها لم تكن ملكًا لأي لنا كانت استعارة" كان ذلك لحسن حظ شارع الأصبغ وسوء حظنا.. ما أجبرني على رجوعي للخلف مطالبًا صديقي الداهية بالتقدم للأمام وإلقاء أحد العبوات.. وكان ذلك..

كان صديقنا الداهية رغم دهائه ضعيف النظر و"لخمة" –لا يُحسن التصرف- قذف بعبوة انفجرت.. وباقي العبوات سقطت منه وسط جماعتنا وانفجرت فينا.. "تجلية" المقروطة وعودتي للخلف كانت سببا في حمايتي.. كانت أجساد زملائي الذين أقف خلفهم ستارًا واقيًا لي.. أما هم.. فاخترقت المسامير والزجاج المتكسر من العبوات الزجاجية أجسادهم وأحدهم اصيب في رقبته..وأسوأهم حظًا.. أصابت الشظايا أعضاءه التناسلية وكادت أن تقطعها بالكامل.

رغم الإصابات الفادحة.. كان رد الفعل الطبيعي الهروب.. فبقاءنا للملمة جراحنا سيجعلنا عرضة لرد فعل انتقامي عنيف من "حِمل" شارع الأصبغ.. وكعادة تلك الطلعات.. بعد اجتماعنا عقب الهروب.. كان التصرف المتفق عليه.. كل شخص يعود لبيته منفردًا دون صحبة أحد.. والمصابون يتوجهون للمستشفيات.. كل فرد في مستشفى ولا يتوجه اثنان لمستشفى آخر.. اجراءات احترازية ورثناها من الأجيال السابقة لنا في الشقاوة.

كانت تلك "الطلعة" الأخيرة لبعضنا.. إلا أنها لم تكن الأخيرة لي.. كل من شهدها أحياء إلا صديقين.. الداهية.. وافته المنية دون أسباب قبل بلوغه الثلاثين.. والأخر الذي أصابت العبوات المتفجرة أعضاءه التناسلية وكادت أن تقطعها.. رغم مقاومته صرعه "السرطان".. رحمهما الله.

عين شمس في 31 يوليو 2016.. بعد مرور إحدى عشر سنة كاملة على تلك "الطلعة"